إدريس هشابه يكتب.. توجيه البرهان والرهان على دولة القانون

في لحظة سياسية دقيقة تمرّ بها البلاد، جاء الحضور المفاجئ لرئيس مجلس السيادة إلى احتفالات الشرطة محمّلاً بدلالات تتجاوز البروتوكول، وتدخل مباشرة في صميم العلاقة بين الدولة والمواطن. لم يكن الحدث في ذاته هو الرسالة، بل ما تلاه من توجيه واضح وصريح بعدم حرمان أي سوداني من حقه في الحصول على الأوراق الثبوتية، وهو توجيه يمكن قراءته باعتباره موقفًا سياسيًا وقانونيًا في آن واحد.
الأوراق الثبوتية ليست مجرد مستندات إدارية، بل هي المدخل الأساسي لممارسة المواطنة. من دونها يُقصى الفرد من التعليم، والعلاج، والعمل، والتنقل، والمشاركة العامة. وبالتالي فإن التأكيد على هذا الحق يمس جوهر فكرة الدولة نفسها: دولة تعترف بمواطنيها وتحمي حقوقهم الأساسية، لا دولة تضع العراقيل أمامهم أو تستخدم الإجراءات كأداة إقصاء أو عقاب.
سياسيًا، يعكس هذا التوجيه إدراكًا متقدمًا لحساسية المرحلة، ومحاولة واعية لإعادة ترميم الثقة المتآكلة بين المواطن ومؤسسات الدولة. فلطالما ارتبطت السلطة في الوعي العام بسوء استخدام النفوذ، أو بتسييس الإجراءات الإدارية، أو بتوظيف القانون بشكل انتقائي. عندما تصدر رسالة من أعلى هرم القيادة تؤكد أن القانون هو الفيصل، وأن الحقوق لا تُمنح بالولاء ولا تُسحب بالخلاف، فإن ذلك يبعث بإشارة تهدئة ضرورية في مناخ مشحون بالشكوك.
كما أن توقيت الرسالة لا يقل أهمية عن مضمونها. فالدولة التي تمر بأزمات سياسية وأمنية واقتصادية تحتاج إلى تثبيت مرجعيات واضحة، وعلى رأسها سيادة القانون. التوجيه بعدم حرمان أي سوداني من أوراقه الثبوتية هو إعلان ضمني بأن الانتماء الوطني لا يخضع للمزاج السياسي، وأن المواطنة لا تُجزّأ ولا تُعلّق.
من زاوية مؤسسية، يحمل الخطاب رسالة مباشرة للأجهزة التنفيذية، وعلى رأسها الشرطة، بأن دورها هو خدمة القانون لا توظيفه، وحماية الحقوق لا التعدي عليها. وهذا يعيد تعريف وظيفة السلطة التنفيذية بوصفها أداة تنظيم وحماية، لا أداة ضغط أو إقصاء. إن تحويل هذا التوجيه إلى ممارسة يومية سيشكّل اختبارًا حقيقيًا لمدى جدية الالتزام المعلن.
في المحصلة، فإن هذه الخطوة – إن كُتب لها الاستمرار والتطبيق الصارم – تمثل لبنة مهمة في بناء دولة القانون، وتفتح نافذة أمل في أن تكون العلاقة بين السلطة والمواطن محكومة بنصوص واضحة، لا بتقديرات شخصية. هي رسالة سياسية بامتياز مفادها أن الشرعية تُبنى على احترام الحقوق، وأن استقرار الدولة يبدأ من طمأنة مواطنيها بأنهم متساوون أمام القانون، ومصانون في كرامتهم، مهما كانت الظروف أو الاختلافات.