الفاشر: عاصمة الروح التي لا تموت

في أقصى غرب السودان، حيث تتناثر بيوت الطين على هضاب الرمل، وتنبعث رائحة التاريخ من كل حجر وشق،
تتربع الفاشر في قلب تاريخ السودان، حاضره، ووجدان كل سوداني.
الفاشر ليست مجرد مدينة، بل هي ذاكرة وطن مشتعلة، ووجدان متقد، ومرآة صافية لوجع البلاد وهي تُجلد بالسياط القديمة ذاتها، لكن بيد أكثر دموية هذه المرة.
“لماذا الفاشر؟”
سؤال يبدو بسيطاً في ظاهره، لكنه ينزف حين تحاول الإجابة عنه. لماذا تستميت ميليشيا الدعم السريع في اجتياح الفاشر؟
ما الذي يجعل هذه المدينة، رغم بعدها عن المركز الجغرافي والسياسي، تتحول إلى “عقبة كَأْداء” في مخيلة حميدتي، الرجل الذي لا يرى في السياسة سوى سوق تُشترى فيه الولاءات وتُحرَق فيه القرى؟
الجواب شقّان: أحدهما استراتيجي، والآخر رمزي – وكلاهما أخطر من الآخر.
فالفاشر مثّلت رمزاً لكرامة دارفور والسودان، وصفعة في وجه الجنجويد.
منذ اندلاع حرب الخرطوم في 15 أبريل 2023، قُسّم السودان إلى مربّعات نار؛ سقط ما سقط، وصمد من صمد، لكن الفاشر بقيت – لفترة طويلة – “المدينة المستعصية”. لم تسقط في يد الدعم السريع كما سقطت نيالا وزالنجي والجنينة. صمدت بعناد أهلها، وبقوة مجتمع مدني يُعدّ الأقوى في السودان، وبوجود بقايا جيش نظامي منضبط. لكن الأهم: بإرادة مواطنيها التي لا تعرف الهزيمة.
الفاشر ليست كغيرها من مدن دارفور؛ إنها عاصمة سلطنة الفور، المدينة التي تأسست فيها الدولة، وحكمت منها الممالك، وأُبرمت فيها المعاهدات. من الفاشر انطلقت شرارات المقاومة الأولى ضد الاستعمار البريطاني – وضد الاستعمار الداخلي لاحقاً.
إسقاط الفاشر، في الوجدان الدارفوري، هو طمس لهوية الإقليم، ومحو故 لذاكرته.
حميدتي يعلم ذلك. إسقاط الفاشر يعني كسر ظهر دارفور المعنوي، وصمودها يعني نسف حلمه في إقامة “مملكة آل دقلو” الإرهابية. يرى في وجودها مشروعاً مقاوماً لأحلام حكمه المستقبلي، الذي يتخيله قائماً فوق أطلال وطن منهار.
الفاشر: عقدة في المشروع العسكري للدعم السريع
عسكرياً، تمثل الفاشر عقدة مواصلات؛ تقع عند تقاطع طرق استراتيجية: من الشرق نحو كردفان، من الغرب نحو الحدود التشادية، ومن الشمال نحو ليبيا. السيطرة عليها تفتح الباب لتطويق شمال دارفور كاملاً، وتحويل ما تبقى من الجيش النظامي هناك إلى جزر محاصرة.
لكن الأهم – وهو ما لا يُقال في نشرات الأخبار – أن الفاشر تحتضن أكبر كتلة مقاومة مدنية نشطة ضد الدعم السريع.
تجمّع أهل المدينة في لجان طوارئهم، ومنظماتهم الشبابية، ونظامهم الأهلي التقليدي، صنع نموذجاً نادراً لرفض الإرهاب، وحوّل المدينة إلى كيان عصيّ على الاختراق. مقاومة الفاشر لا تتكئ على البندقية وحدها، بل على الروح الجمعية، على تلك الكلمة الغامضة التي لا تُدرّس في أكاديميات الحرب: الكرامة.
حميدتي ومركب النقص أمام “المدينة القديمة”
لطالما قُدّمت مدن الهامش في سردية السلطة السودانية كـ”توابع” للعاصمة – مستهلكة لا منتجة، منفّذة لا مخطِّطة. لكن الفاشر ترفض هذا الدور منذ قرون.
ربما يرى حميدتي، القادم من عمق الصحراء، في الفاشر تحدياً وجودياً: مدينة لها نُخبها، وتاريخها، ومثقفوها، وزعماؤها الذين لا يبايعونه.
مدينة تقرأ التاريخ، لا تتلقى تعليماته. ولهذا يريدها أن تسقط. لا ليحكمها – بل ليكسرها، ليجعلها عبرة.
“مدن لا تموت”
لكن الفاشر ليست مدينة قابلة للكسر. هي من تلك المدن التي، كلما احترقت، وُلدت من رمادها.
حين اجتاحتها جيوش النهب التركي في القرن التاسع عشر، لم تنكسر.
حين أطبقت عليها مجاعة الثمانينات، قاومت.
وحين تجاهلتها الخرطوم عقوداً، بنت نفسها بنفسها.
واليوم، وهي تحت القصف والتهديد والإطباق، تثبت من جديد أنها ليست مجرد جغرافيا، بل وجدان جماعي. ولهذا يُجنّ جنون الدعم السريع كلما استعصت عليه. لأنه يخوض حرباً ضد مدينة لا تُهزم بالسلاح، بل تحتاج إلى تصفية رمزية، تطهيرٍ روحي…
وذلك مستحيل.
الظل النووي الأخير
في خضم هذه المعركة الطويلة، تتحول الفاشر إلى آخر حصن للروح السودانية المتمردة – تلك التي لا تقبل الركوع.
ولعل حميدتي يُدرك، متأخراً، أن المدن لا تُحكم بالبندقية، وأنه حتى لو دخلها، فلن يسكنها. لأن مدينة مثل الفاشر تسكن الناس قبل ان يسكنوها.
ستنتهي هذه المليشيا علي ابواب الفاشر
وإلى أن تنتهي الحرب، تبقى الفاشر… ظلاً نووياً في ذاكرة الوطن، تتوهج كلما حاول الطغاة إطفاءها.