أخبار عاجلةالاجتماعيمقالات

حين باع القادة الثورة

 

في البدء، كانت الساحات.
كان الهتاف يهزّ الأرض تحت أقدام الطغاة، وكان الدم يُهرق لا طمعًا في سلطة، بل شوقًا لوطن.
حتي سقط الطاغية و جاء عصر جديد كان من الممكن ان يكون بداية جديدة لوطن جامع إلا ان قلة ارتدت بدلات و ربطات عنق علي أعناقهم، وسمّوا أنفسهم ممثلي الثورة… دون أن يُنتخبهم أحد، أو يفوّضهم أحد. جعلوا الثورة حصادهم كانهم من زرع فينا بزرة الحرية و اغلبهم لم يتشرف باستنشاق غاز الثورة او حتي وقف تحت لهيب شمسها و وثق فيهم الثوار لا لمعرفتهم بهم لكن لحديثهم المنمق و الوعود البرتقالة

متناسين ان المستبد الذكي لا يقضي علي معارضيه لكن يضعفهم لدرجة يكونون فيها اكبر مبرر لاستمرار حكم المستبد.

فكانت المعارضة التي مارست كل أنواع التوالي و التوازي و التعالي مع البشير سر امتداد حكمه الآثم.

حتي جاء السادس من أبريل 2019، وقف الآلاف أمام القيادة العامة في الخرطوم، وكان الهتاف يصعد كأنه صلاة جماعية نحو وطن جديد.
لم يكن أحدٌ يتحدث باسمهم، ولم تكن بينهم نخب سياسية تُنظّر، أو قيادات عسكرية تساوم.
كانوا شعبًا، عاري الصدر، مسلحًا فقط بالإيمان بعدالة قضيته.

ثم سقط البشير.
وسقطت معه الأقنعة الأولى.
فجأة، خرج من بين الظلال أولئك الذين غابوا عن أيام الدم والدخان، ليعلنوا أنفسهم “ممثلي الثورة”.

وبينما كان الثوار يدفنون الشهداء، كانت تُنسج الخيوط الأولى لاتفاقات لم تُعرض على أحد، ولا صادق عليها شارع.

دخلنا مرحلة “الوثيقة الدستورية”، ولم نكن ندرك أنها كتبها مهندسو الانتقال لا من رحم الثورة، بل من مكاتب التوازنات الإقليمية.
نصف للعسكر، ونصف للمدنيين… وبينهم شعب لا يجد حتى ربع حقه.

ثم جاء الاتفاق السياسي… ثم اتفاق جوبا… ثم اتفاقات الغرف المغلقة.
وكل مرة، كان الثمن دمًا جديدًا، وخيانة جديدة.

لقد بدأت الثورة في الشوارع، وانتهت على أوراق فيها تواقيع بلا شرعية، وتحالفات بلا مبدأ، ومجالس وزراء تُدار من الخارج.

الثورة لم تُهزم في الميدان.
هُزمت في صمت من ادّعوا تمثيلها، وفي تنازلات من لبسوا عباءتها.

فبلغوا من الضعف مرحلة انهم نسوا قوة الشارع و نبضه فباعوا الحلم قطرة قطرة، في صالات مكيفة، وبنود مبهمة، وتوقيعات مرتعشة.

وفي الجهة الأخرى، جلس حميدتي على مقعد لا يليق إلا بالمقابر، يوقّع وثيقة، ويزرع لغماً، ويبتسم للكاميرات.

لم يرفعوا راية الثورة… رفعوا بدلًا عنها خرائط المصالح. لم يسمعوا نبض الشارع… بل سمعوا همسات العواصم، وتعليمات غرف “الأصدقاء”.

الخرطوم التي حلمت بالدولة، أصبحت مسرحًا للصفقات.
والمدن التي أشعلت الثورة، تُقصف اليوم بالصمت والتواطؤ.
وكأننا لم نقل “حرية سلام وعدالة”، بل قلنا: “اقتسموا الغنيمة… وامنحوا القتلة شرعية جديدة”.

فمتى نكتب الحقيقة؟
ومتى نواجه السؤال المر:
هل ضاعت الثورة… أم سُرقت منّا؟

شباب الثورة و اصحاب الوجع
حين كان الجميع يراهن على سقوط الثورة، وقف الشباب وحدهم في وجه آلة القمع.
لم يكن في أيديهم سلطة، ولا ميزانيات، ولا قنوات فضائية…
كان لديهم فقط إيمان متراكم، وأمهات تنتظر أبناءها سالمين، وشوارع تحفظ أسماء من سقطوا فيها.

لجان المقاومة لم تكن تنظيمًا سياسيًا.
كانت الضمير الحي للثورة.
من داخل الأحياء، ومن تحت الركام، نظّمت المواكب، وواجهت الاعتقالات، وأسعفت الجرحى، ودفنت الشهداء.
ومع كل انحناءة من السياسيين، كانوا هم من يرفع الرأس عاليًا.

لكن خيبتهم جاءت ممن زعم تمثيلهم.
السياسيون، الذين ركبوا موجة ديسمبر، لم يصغوا يومًا إلى بيانات اللجان، ولا احترموا تسلسلها التنظيمي، ولا فتحوا لها أبواب القرار.
كانوا يريدون “ثورة بلا ثوّار”، ومقاعد بلا مقاوِمة.

ثم جاءت الطعنة الكبرى.
حين تَصالح السياسيون مع العسكر، جلسوا معهم على الطاولة… بينما كانت لجان المقاومة تُضرب وتُعتقل وتُشهّر بها في الإعلام.
اتهموها بالتطرف، واتهموا شبابها بالجهل، بينما كانوا هم يوزّعون المناصب، ويكتبون بيانات بلغة خشبية، لا تمت بصلة إلى صوت الشارع.

هل نسوا من أغلق الجسور؟
من وقف في الأمطار؟
من حمل الجريح على كتفه، حين كان “قادة المرحلة الانتقالية” يتناولون العشاء في الفنادق الفارهة و يستظلون بوعود السفارات.

لجان المقاومة لم تكن مجرد هياكل تنظيمية…
كانت القلب النابض للثورة.
ومن يطعن القلب، لا يمكنه أن يدّعي قيادة الجسد.

في لحظة فارقة من الثورة، ظهر حميدتي في الصورة لا كمجرم حرب سابق، بل كـ”شريك مدني” في الانتقال.
رجلٌ صعد على جماجم دارفور، فجأة أصبح نائبًا لرئيس مجلس السيادة… ثم راعيًا للصلح… ثم زعيمًا “قوميًا” يُستقبل في قصور الخليج.
كيف حدث ذلك؟
الجواب بسيط… حين تخلى من زعموا تمثيل الثورة عن المبادئ، وجد الجنرال الطريق معبّدًا نحو القصر.

لم يكن حميدتي في صف الثورة يوماً، لكنه قرأ لحظتها السياسية بذكاء قاتل.

علم أن الدماء وحدها لا تكفي، لا بد من غطاء سياسي، شرعية من “قحت”، وتواقيع من نخب مستعدة للتنازل باسم “التوازن”.
فتح لهم بوابات السلطة، وفتحوا له بوابات الدولة.

تحالف الطرفان، كلٌّ له هدف:
هم أرادوا الكراسي، وهو أراد الغطاء.
هم خافوا من العسكر الآخرين، وهو قدّم نفسه كضامن للمرحلة.
وهكذا، جلس حميدتي بين العسكر والمدنيين، يراقب ضعف الجميع… ويُحكم قبضته.

لكن الثورة، التي ظنها البعض جسرًا للعبور، كانت نارًا تحرق كل من يخونها.

كانت الثورة تطلب دولة،
فأعطوها وثيقة هشة، واتفاقات مليئة بالألغام.
كل بند في تلك الوثائق كان يحمل بذرة صراع مؤجل، وكل توقيع بلا شرعية شعبية كان خطوة نحو الفوضى.

بدأت القصة كـ”شراكة مدنية–عسكرية”، لكنها في الحقيقة كانت شراكة في تأجيل الانفجار.
حميدتي احتفظ بسلاحه، واحتفظ بسيطرته على الذهب والمليشيات والحدود.
والدولة – التي تُدار من فوق الطاولة – لم تجرؤ على الاقتراب من سلطته الحقيقية.

ثم جاء الانقلاب… ثم الصمت… ثم التواطؤ.
حكومة مدنية أُسقطت، ولم تخرج جموع تدافع عنها، لأن الشارع لم يعد يثق بها.

فجأة، انفجرت الحرب.
لكنها لم تكن مفاجأة.
كانت نتيجة منطقية لاتفاقات الصمت، وسنوات من تلميع القاتل حميدتي ، وتمكين المليشيا، وتجاهل جذور الأزمة.

بدأت المعركة في قلب الخرطوم، ثم تمددت كالنار في هشيم البلاد.
مدن تحترق، أحياء تُقصف، وشعب يُذبح باسم “السيادة” و”الشرعية”.
وكان حميدتي، الذي استُقبل يومًا كـ”شريك في الانتقال”، يطل عبر الفيديوهات مُلوّحًا بمفردات الثورة التي لم يؤمن بها يومًا.

أما من باعوا الثورة أول مرة… فقد صمتوا، أو فرّوا، أو ارتضوا بلعب دور الضحية.

لم تكن حربًا بين جيش ومليشيا فقط، بل بين وطن حقيقي… ووهم الدولة الذي صنعته تحالفات الخراب.

اليوم، يقف السودان على أنقاض ما تبقى من ذاكرته.
دولة مشلولة، عاصمة مهجورة، وجيشان يتنازعان الأرض والشرعية،
لكن رغم كل هذا الخراب، ما زال السؤال القديم يُلحّ:
هل انتهت الثورة؟
أم ما زال فيها قلب ينبض في مكانٍ ما… خارج الصالات… خارج البنادق؟

ربما لم تعد الساحات كما كانت.
لكن الأحياء التي تواجه الحرب وحدها، والمواطنون الذين يعيدون تدوير الحياة من رمادها، والشباب الذين يُنقذون الأطفال وسط القصف…
كل أولئك هم استمرار غير معلن لتلك اللحظة النقية في ديسمبر.

لم تعد الثورة بحاجة إلى خطب، ولا إلى قادة.
هي الآن بحاجة إلى ذاكرة.
ذاكرة تحفظ من باع، ومن قاوم، ومن صمت.
ذاكرة لا تُجمّل الأسماء، ولا تُبرئ المتواطئين، ولا تعفو باسم “الواقعية السياسية”.

نعم، طُعنت الثورة.
لكنها لم تُدفن.
لأنها ليست حكومة، ولا وثيقة، ولا حزب…
بل شعور بالكرامة، لا يمكن قتله حتى بآلاف المسيرات والمجازر.
الثورة كانت حرب كرامة و ما تزال .
ويبقي الظل النووي حاضرا في زمن الرماد، لا شيء أنبل من حفظ النور.

البلد نيوز

البلد نيوز صحيفة إلكترونية تهتم بالشأن المحلي والعربي والعالمي معًا، مستندة على المصداقية ونقل الصورة كما هي للأحداث، وتمنح البلد نيوز للمبدعين والكتَّاب ساحة للإبداع وطرح الأفكار، وتسعى إلى دعم كل ما هو جديد ومفيد في شتى المجالات.
زر الذهاب إلى الأعلى