حين حمل الشباب الوطن على أكتافهم

في زمن الحرب، لا يُقاس المجد بعدد البنادق التي هبت للدفاع عن الوطن فقط بل أيضاً بعدد الأيادي التي تمتدّ لتنقذ الأرواح. وفي قلب الخراب السوداني، حين تشظّى الوطن بين بنادق الطامعين وخيانات السياسيين، برز جيلٌ من الرماد. جيلٌ لم يكن يحمل رتبةً عسكرية، ولا مقعداً برلمانياً، بل كان يحمل رغيف خبز، وعلبة دواء، وأملاً لا يُقهر.
هؤلاء هم شباب المقاومة ولجان الخدمات، أبناء الشوارع المُتربة، والأحياء التي تُقصف بلا ذنب. لم ينتظروا أمراً من أحد، ولم يطلبوا تصفيقاً من جمهور، بل فعلوا ما كان يجب أن يُفعل.
حين كادت الدولة أن تنهار، أقاموا بديلاً أخلاقياً.
حين ضاعت الخدمات وساد الصمت العالمي، أنشؤوا مطابخ مفتوحة ومراكز إسعاف أولي.
وحين انسحب العالم من الخرطوم، وقفوا على المتاريس، لا ليقاتلوا، بل ليحموا النساء من الاغتصاب، والأطفال من القنص، والشيوخ من الجوع.
كانوا حاضرين في ذاكرة الوطن والمواطن، فمثّلوا خيرَ مثال لما يمكن أن يجمعنا، وكيف يجب أن نكون في وجه الشدائد.
قال غاندي: “أفضل وسيلة لتجد نفسك هي أن تكرّس نفسك في خدمة الآخرين.”
وهؤلاء الشباب لم يجدوا أنفسهم فقط، بل وجدوا وطنًا كاد أن يضيع ذات خيانة، فحملوه في قلوبهم وعلى ظهورهم.
في “الظل النووي”، هذا الفراغ الذي خلّفته الدولة المنهارة، كانت لجان الخدمات الوجه المدني للمقاومة، لا في وجه العدو فقط، بل في وجه النسيان والتخلي. كانت تدير النفير، تنظّم المعونات، توثّق الانتهاكات، وتضمّد الجراح. لم يكن لديهم إعلام، ولا دعم من منظمات مانحة، بل كانوا يستمدون قوتهم من حبّهم لمكان اسمه السودان.
كما قال الشاعر محمد الحسن سالم حميد:
يا وطن لو شُلت سيفي
ما بكون زي شيلك إنت
فيك كفي الحنين
وإنت الكف الرفع شدة
في الكلاكلة، حين انقطعت المياه لأيام، نظم شباب الحي رحلات يومية إلى النيل لملء الخزانات وتوزيعها مجاناً على الأسر والعجزة.
في دار السلام، نظمت فتيات صغيرات ورش خياطة لصناعة الفوط الصحية وتوزيعها على النازحات.
في شرق النيل، حمل فتيان الجرحى على دراجاتهم وسط الرصاص إلى نقاط الإسعاف.
وفي أم درمان، أعاد متطوّعون الحياة إلى مدرسة مدمّرة، لتتحوّل إلى مركز إيواء يخدم أكثر من مئتي أسرة.
وقد صدق توفيق الحكيم حين قال: “إن الأمة التي لا تجد بين أبنائها من يضحّي من أجلها، لا تستحق أن تعيش.”
لكن شباب السودان لم ينتظروا من يخبرهم بواجبهم، فقد كتبوا على جدران بيوتهم المنهارة: “لسّه فينا روح”.
وحين تُروى حكاية السودان للأجيال القادمة، سيُذكر أن هناك من حمل البندقية دفاعاً عن العرض، ومن حمل المعول ليرفع أنقاض بيته ويؤسس نقطة إغاثة، ومن حمل دفتر حسابات في لجنة خدمات ليضمن توزيع العيش بعدالة، ومن حمل كيس دقيق ليطهو وجبة ساخنة في قلب النيران.
في السودان، هناك يدٌ تساعد، ويدٌ تحمي.
من بين كل يد امتدّت لتسرق، وتخرب، وتغتصب، وُجدت يد تبني، وتمد، وتضمّد.
وهؤلاء الشباب – جنباً إلى جنب مع من حمل السلاح دفاعاً عن شرف أهله – هم من يستحقون هذا الوطن.
هم من يزرعون المعنى الحقيقي لجائزة نوبل للسلام، لا كزينة تتناقلها الخطابات، بل كفعلٍ حيّ في الأزقة، والأسواق، والمستشفيات.
وقد قال الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود حولي :
سأحمل روحي على راحتي
وألقي بها في مهاوي الردى
فإمّا حياةٌ تسرّ الصديق
وإمّا مماتٌ يغيظ العدى
هم، لا سواهم، من يليق بهم أن يقفوا على أنقاض الخراب ليبنوا سوداناً جديداً.
بسواعدهم، لا بتصفيق القاعات.
وفي الختام، فإن “الظل النووي” الذي خلّفته الحرب لن تبدّده الخطابات، بل شبابٌ مثلكم. فشكراً لكم أنتم، لأنكم المستقبل. المجد لكم، أنتم لا غيركم، فأنتم اليد التي أنقذت، والأمل الذي نهض. لا مجد لمن خانكم، ولا سلام مع من دمّركم