أخبار عاجلةالاجتماعيمقالات

حين يسقط السيف من يد الجلاد – مصير الدعم السريع بعد الهزيمة

 

كل ما نعيشه اليوم يخبرنا بأنها حتمية النهاية:
عمليات إرهابية تستهدف المرافق الحيوية، وقتل جماعي لمواطنين عزل، جرمهم الوحيد أنهم سودانيون تواجدوا في المكان الخطأ حين انهارت المليشيا.

ففي الليالي التي تسبق السقوط، يصبح الصمت أثقل من الرصاص، وتترنح المتاريس، وتتآكل الأوامر قبل أن تصل، ويتسلل الخوف بين صفوف من اعتادوا ألّا يخافوا، حتى يصيبهم جنون الارتياب، فيعمدون إلى القتل والاغتصاب، فقط ليجدوا بعض شعور بالسيطرة التي فقدوها.
شعور إن أضفته إلى نشوة القتل لديهم، منحهم قدراً كبيراً من الهدوء المفقود، وهم يتخبطون بين الهروب والبقاء.

رجال المليشيا، الذين كانوا قبل شهور يملكون الأرض ومن عليها، يتحولون إلى أشباح تمشي فوق تراب محترق، تنتظر النهاية بلا مجد.

يجترّون خسائرهم، ويعلنون أن الأرض ضاقت بهم بما رحبت، ويتذكرون كيف كانت مليشيا الدعم السريع يوماً أقوى من أن تُهزم، وأقسى من أن تُسقط.
لكن ما طار سريعاً، سقط سريعاً؛ فسقطت المليشيا التي بُنيت على الخوف والنهب والدم.

“حين يسقط الطغاة، لا يسقطون وحدهم، بل يسحبون معهم كل شيء إلى الهاوية: المدن، الذكريات، وأحياناً الحلم نفسه.”
ــ فرانز فانون

هذا تماماً ما يفعلونه اليوم: يحاولون قدر الإمكان إصابة التيار الكهربائي، وكأنهم نسوا أو تناسوا أن حربهم كانت ضد خالقهم: التيار السياسي الإسلامي للبشير…
يحاولون حرق النسيج المجتمعي باستهداف عرقيات وقبائل معينة، ليمنحوا أنفسهم هدفاً جديداً وشرعية فقدوها؛ مع أن شرعيتهم، المبنية على أمر من برلمان الكيزان، كانت مفقودة منذ أول يوم في الثورة. فالميليشيا ليست إلا إرثاً لنظام المخلوع يجب تفكيكه ومحو أثره مهما كان الثمن، فما خرج عن برلمان الباطل باطل.

يستيقظون وهم مجبرون على التراجع أمام ضربات الجيش السوداني.
واضح جداً أن المليشيا التي ملكت كل شيء، فقدت كل شيء الآن، ودخلت مرحلة التفكك.
ويبدأ سؤال ثقيل يتردد في عقولهم المغيبة:
أي مستقبل ينتظر مليشيا الدعم السريع بعد الهزيمة؟

بداية الحطام

لم تُهزم المليشيات الكبرى دائماً بالمعركة المباشرة؛ أحياناً تنهار من الداخل: بالانقسام، بالخيانة، بالتعب.
مشاهد المدن التي كانت يوماً معاقل للدعم السريع، وهي تتحرر واحدة تلو الأخرى، تشبه سقوط قلاع من رمال الخيانة والإنهاك.
مع كل انسحاب، أو كما يحبون تسميته “إعادة تموضع”، تتفتت السلطة من بين أيدي قادتها، وتتسرب معها الثقة والولاء.

هكذا تسقط المليشيات: لا بفعل سيف خارجي وحده، بل تحت وطأة انهيار داخلي بدأ منذ اللحظة التي خانت فيها دورها الأصلي وتحولت إلى مشروع شخصي للثراء والدمار.

شبح الحرب الذي لا يموت

في بعض الأحيان، لا تموت المليشيات مع هزيمتها؛ بل تتحول إلى أشباح حرب، تعيش بين الأطلال وتضرب في الظل.
الدعم السريع، بخبرته الطويلة في المناورات والكر والفر، قد يلجأ إلى التحول نحو حرب العصابات في الأقاليم الطرفية: دارفور، كردفان، أطراف النيل الأزرق.

“تبدأ الحروب حين نعتقد أننا نسيطر على نهاياتها، لكنها حين تنفلت، لا تترك لنا شيئاً سوى الركام… وذكريات الخوف.”
ــ جورج أورويل

إذا حدث ذلك، فإن السودان قد يدخل فصلاً أطول وأكثر خطراً من الفوضى:
• هجمات على المدن الصغيرة.
• قطع طرق القوافل والإمدادات.
• استنزاف طويل للجيش والدولة.

سيناريو حرب العصابات قد يبدو كموت بطيء للدولة، لكنه سريعاً ما سيتحول إلى نصر حاسم؛ فالمليشيا لن تستطيع حتى الاستمرار في حرب الاستنزاف، فهي أول مستنزف في هذه الحرب.
ومن هنا، ستنتقل إلى السيناريو الثاني.

من مليشيا إلى مافيا

الاحتمال الثاني، الأكثر ترجيحاً، هو التحول إلى شبكة إجرامية منظمة.

مليشيا مثل الدعم السريع، التي راكمت خبرات واسعة في تهريب الذهب والبشر والسلاح، لن تختفي ببساطة.
بل ستعيد تشكيل نفسها كعصابات مافياوية تسيطر على مسارات التهريب العابرة للحدود:
• تهريب الذهب إلى ليبيا وتشاد.
• تجارة البشر عبر الصحراء الكبرى.
• تجارة الأسلحة لدعم النزاعات الإقليمية.

اقتصاد الحرب الذي رعته المليشيا قد يصبح نمط حياتها الجديد، بعد أن فقدت شرعيتها العسكرية والسياسية ومصادر تمويلها الداخلية والخارجية.

الهروب واللجوء

حين تسقط آخر الحصون، لا يبقى أمام قادة الهزيمة سوى الهروب.
صور القادة الفارين في الظلام، بجوازات سفر مزورة، عبر الحدود الممزقة، ستكون المشهد الطبيعي لنهاية الكابوس.

بعضهم قد يسعى إلى اللجوء السياسي في دول الجوار، أو عبر صفقات سرية تضمن لهم الحماية مقابل تنازلات أو أوراق استخباراتية.

لكن مهما كانت الملاذات مؤقتة، فإن التاريخ يعلمنا أن الهاربين لا ينجون من لعنة ما ارتكبوه، ولا من مطاردة الذاكرة.

مطاردات العدالة البطيئة

أما أكثر السيناريوهات عدلاً، فهو ذاك الذي يقود فلول الدعم السريع إلى قاعات المحاكم الدولية.

ملفات جرائم الحرب، جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، جاهزة منذ سنوات:
• دارفور في 2003.
• الخرطوم في 2023.
• الجزيرة في 2024.

مئات المجازر الموثقة بشهادات وصور… قدموها هم للعالم، كالقاتل السايكوباثي الذي يحرص على تسجيل جريمته ليجد في استذكارها نشوة.

قد تتأخر العدالة، لكنها حين تصل، تكون بطيئة وقاسية كالبرد القاتل.

مشاهد المحاكمات الصامتة في لاهاي، أو حتى محاكم وطنية منتظرة في الخرطوم الجديدة، ستكون الفصل الأخير في رواية الرعب هذه.

ما بعد السقوط: هل يكفي موت الجلاد؟

سقوط الدعم السريع، مهما كان دموياً أو كاملاً، لن يكون نهاية مأساة السودان.
لأن الخراب الذي زرعته هذه المليشيا أكبر من أن يُرمم بسقوطها وحدها:
• مؤسسات الدولة المتآكلة.
• النسيج الاجتماعي الممزق.
• ثقافة الفوضى والخوف.

“لستُ آسفاً لأنني وقفتُ ضد الريح، بل لأن الريح لم تحملني إلى مكان أعرفه.”
ــ محمود درويش

التحدي الحقيقي لن يكون فقط في إسقاط السيف من يد الجلاد، بل في أن نبني وطناً جديداً من بين الأنقاض، وطناً لا يولد من رماد الخراب، بل من ذاكرة نجت بصعوبة من الموت.

في نهاية كل حرب، تنهض المدن ببطء، كما ينهض الإنسان بعد مرض طويل.

وفي نهاية كل حكم للجلادين، يعود للناس حلمهم البسيط: أن يعيشوا دون خوف.
ربما تكون الطريق طويلة، محفوفة بالندوب والخسارات،
لكن السيف سقط أخيراً…
واليد التي امتدت لتقتل، باتت الآن ترتعش من برد النهاية.

والشعب الذي مشى طويلاً تحت الظل النووي،
يبدأ اليوم مسيرته نحو الضوء…
ولو كان الضوء خافتاً، خافتاً جداً

البلد نيوز

البلد نيوز صحيفة إلكترونية تهتم بالشأن المحلي والعربي والعالمي معًا، مستندة على المصداقية ونقل الصورة كما هي للأحداث، وتمنح البلد نيوز للمبدعين والكتَّاب ساحة للإبداع وطرح الأفكار، وتسعى إلى دعم كل ما هو جديد ومفيد في شتى المجالات.
زر الذهاب إلى الأعلى