د.هيثم مكاوي يكتب.. أشباح الدولة المدنية – بين التمجيد والتفريغ

في السودان، كثيرًا ما تُرفَع المدنية كشعار، لا كمشروع. تُعلّق على الجدران، وتُحشر في بيانات القوى السياسية، وتُطلب في مواثيق الخارج وبيانات التفاوض، لكن حين نبلغ سدة الحكم، تتبدل الأدوار: من طالبين بالمدنية… إلى مستبدين بها.
وهكذا، تحوّلت الدولة المدنية عند بعض النخب إلى أشبه بأشباح: نراها في النصوص، ونلمح ظلها في التصريحات، لكننا لا نجد لها جسدًا في المؤسسات، ولا روحًا في الممارسة.
ما هي الدولة المدنية؟
الدولة المدنية ليست مصطلحًا نخبويًا، بل بنية حكم
تقوم على خمسة أركان رئيسية:
1. سيادة القانون:
الجميع، حكّامًا ومحكومين، خاضعون للقانون. لا حصانات، ولا امتيازات إلا ما أجازه التشريع الشعبي.
2. الفصل بين السلطات:
السلطات التشريعية، التنفيذية، والقضائية منفصلة، يراقب بعضها بعضًا. لا يجتمع التشريع والتنفيذ في يد واحدة.
3. المواطنة أساس الحقوق والواجبات:
لا فرق بين المواطنين على أساس الدين، الجنس، العرق أو الانتماء السياسي.
4. التعددية وقبول الآخر:
الاعتراف بحق جميع التيارات والأحزاب والفئات الاجتماعية في الوجود والمشاركة، لا إقصاء لأحد.
5. الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة:
لا سلطة بدون انتخاب. ولا حكم بدون تفويض. ولا وصاية على الشعب إلا عبر برلمان يعبّر عنه.
حين لبس المدني قناع السلطان
ما بعد ديسمبر، لم نرَ مشروع دولة مدنية. بل رأينا إدارة مدنية للاستبداد القديم. إدارة تسير على خطى النظام الذي أسقطناه، وتُعيد إنتاج أدواته بأسماء جديدة.
1. إقصاء الخصوم باسم الثورة
تمت شيطنة فئات واسعة من الشعب تحت لافتة “الفلول”. لم يُحاسبوا على جرائم، بل على أفكار وانتماءات.
قُطعت أرزاق آلاف الموظفين بلا محاكم، ولا لجان تحقيق، ولا حق في الدفاع، عبر لجنة تفكيك التمكين التي تحولت من أداة عدالة إلى عصا سياسية.
مثال:
• إقالة الآلاف من المعلمين، الأطباء، والموظفين العامين من وظائفهم دون تهمة واضحة أو محاكمة، ما شكل انتهاكًا واضحًا لسيادة القانون ومبدأ العدالة الإجرائية.
• رفض مبدئي لضم قوى سياسية كبيرة إلى أي مشاورات مستقبلية بحجة “خيانة الثورة”، رغم أن بعضها كان جزءًا من المعارضة منذ سنوات.
2. تمكين مدني بلا تفويض
الحكومة الانتقالية لم تُعيَّن بانتخابات، لكن سلوكها السياسي عكس حالة من الاستئثار بالسلطة. تم اختيار الوزراء، الولاة، ووكلاء الوزارات، بل حتى أعضاء مجالس الجامعات، بمزاج حزبي محض، بلا مشاركة مجتمعية ولا منافسة مفتوحة.
مثال:
• تعيين ولاة مدنيين على الولايات دون مشورة أهلها، بعضهم لا يملك صلة بالمنطقة، مما أثار احتجاجات واسعة (كما حدث في كسلا ودارفور).
• توزيع المناصب الحكومية ضمن محاصصة بين مكونات قوى الحرية والتغيير، مما أقصى الحركات الموقعة على السلام لاحقًا.
3. احتكار التشريع في يد التنفيذي
غياب المجلس التشريعي أعطى السلطة التنفيذية كامل صلاحيات التشريع. اجتمع مجلسا الوزراء والسيادة على طاولة واحدة، وأصدروا القوانين، وعدلوا الوثيقة الدستورية، وأقرّوا السياسات… كل ذلك دون تفويض شعبي.
مثال:
• إقرار قانون تفكيك النظام السابق من دون مجلس تشريعي، وتعديل الوثيقة الدستورية لاحقًا بوسائل أقرب إلى الالتفاف منها إلى الحوار الدستوري.
4. تغييب القضاء ووأد العدالة
في دولة مدنية، القضاء هو الحارس الأول. لكن في السودان، ظلت المحكمة الدستورية معطلة، ومجلس القضاء الأعلى في فراغ، ومناصب القضاء خاضعة لموازين السياسة.
العدالة الانتقالية كانت وعدًا في الوثيقة، لكنها صارت حقل ألغام، طغت فيه الأجندة على الإنصاف.
مثال:
• لم تُحاكم أي جهة في مجزرة القيادة العامة، رغم تشكيل لجنة تحقيق.
• لم تُفعَّل المحكمة الدستورية حتى لحظة الانقلاب في 25 أكتوبر، ما جعل الوثيقة الدستورية بدون حارس قانوني.
أشباح مدنية… لا دولة
المدنية ليست إطاحة بعسكري ليتسلم مكانه ناشط.
وليست فصلاً للدين، بل فصلاً للسلطات.
وليست حكم النخبة، بل حكم الشعب.
في واقعنا، تحولت المدنية إلى وسيلة للاستحواذ، بدل أن تكون آلية للتوازن.
خاتمة: من راية الثورة إلى ظلها
ما لم نفهمه بعد، هو أن المدنية لا تُبنى بشعار، بل بتنازل.
تنازل عن الغنيمة، وعن النزعة الإقصائية، وعن الوصاية الثورية.
فمن يرفع راية المدنية، عليه أن يؤمن أولاً بأن الشعب هو السيد، لا من يتحدث باسمه.
وإلا… فإن ما سنبنيه ليس دولة مدنية، بل نسخة جديدة من دولة الاستبداد… بأصوات مدنية ولغة حقوقية.
#الظل_النووي
#مدنية_بلا_مؤسسات
#نخبك_يا_وطن_صافي
#لا_مدنية_مع_الإقصاء