أخبار عاجلةالاجتماعيمقالات

د.هيثم مكاوي يكتب ..زمزم… صفعة في وجه الإنسانية

الظل النووي

في السودان، المعسكر ليس مأوى، بل شهادة حيّة على العجز، وعلى جرائم تُرتكب كل يوم بأدوات محلية وبصمت دولي. ومعسكر زمزم، أكبر معسكرات النازحين قرب الفاشر، لم يعد مجرد اسم في نشرة إنسانية، بل تحوّل إلى شاهد يُلقي علينا اللوم، ويطالبنا بالإجابة: إلى متى يُمنح الجناة الضوء الأخضر؟ وإلى متى يبقى المظلومون في انتظار عدالة لا تصل؟

زمزم ليس قصة جديدة، بل قصة قديمة جدًا، تكتبها الأمهات بدموعهن منذ عام 2003، ويعيد روايتها الأطفال الذين لم يعرفوا من العالم سوى الغبار، وخوف منتصف الليل، وصوت المليشيا وهي تقرع أبواب الخيام.

زمزم شهادة صارخة على ممارسات عنصرية فاقت النازية والفاشية.

من المأساة إلى المجزرة: تاريخ في قيد التكرار

حين فرّ الناس من قراهم في جبل مرة، كبكابية، شنقل طوباي، وتابت، لم يكن في الحسبان أن الخيمة ستكون مقرًا دائمًا. لكن الدولة، أو ما تبقى منها، تركتهم هناك. وجاءت “اتفاقيات السلام” واحدة تلو الأخرى لتمنح القتلة مقاعد سياسية، ومزيدًا من الحصانات، والإفلات من العقاب، وتمنح الناجين مزيدًا من الخيام المهترئة.

لكن عام 2023 لم يكن كسابقيه.

حين انفجر النزاع بين الجيش ومليشيا الدعم السريع الإرهابية، تحوّل زمزم من معسكر للنازحين إلى بؤرة صيد بشري. قُطعت الطرق، وتوقفت المنظمات، وانتشر عناصر مليشيا القتل السريع في أطراف المخيم كما تنتشر الكلاب الجائعة. لم يبحثوا عن عدو، بل عن غنيمة: نساء يُغتصبن، رجال يُختطفون، أطفال يُجندون قسرًا أو يُتركون للموت جوعًا.

مجزرة الصمت: جرائم الدعم السريع في زمزم

بحسب تقرير منظمة “أطباء بلا حدود” في أكتوبر 2023، يشهد زمزم انهيارًا إنسانيًا شاملًا. لا طعام، لا دواء، لا حماية. فقط مليشيا مسلحة، وجثث تُدفن بصمت في أطراف المعسكر، بلا مراسم، بلا شاهد، بلا وطن.

جرائم قوات الدعم السريع لم تكن حالات فردية، بل سياسة مُمأسسة:
• اغتصاب جماعي ممنهج: وثّق ناشطون محليون أكثر من 120 حالة اغتصاب داخل زمزم منذ يونيو 2023. من بين الضحايا: رحاب آدم يعقوب (15 سنة) التي تُوفيت بعد الاعتداء، وجميلة خميس عبدالله (17 سنة) التي فُقدت ولم يُعرف مصيرها بعد.
• القتل خارج القانون: كما حدث لـ محمد حسن يعقوب، الممرض الشاب الذي أُعدم ميدانيًا، وآدم عبدالكريم هارون، أحد أعضاء لجان الحي الذي وُجدت جثته قرب النهر بعد اختطافه بأيام.
• نهب المساعدات وحصار غذائي: أغارت عناصر الدعم السريع على مقار الإغاثة، ومنعت دخول القوافل، واستخدمت الغذاء كسلاح. أصبح حليب الأطفال يُباع في السوق السوداء بسعر الدم.
• تجنيد قسري للأطفال: جنّدت المليشيا عشرات من أطفال المعسكر، ودفعتهم لجبهات القتال أو للحراسة القسرية.

أسماء الشهداء: الذاكرة لا تموت
• الشهيد محمد حسن يعقوب – أُعدم ميدانيًا.
• الشهيد آدم عبدالكريم هارون – اختُطف وعُذّب حتى الموت.
• الطفلة آمنة عيسى سليمان – قُتلت في قصف على مركز تعليم.
• الشهيدة فاطمة خليل عبدالله – قُتلت دفاعًا عن أطفالها.
• الشهيد بشير عبدالله فضل – موظف إغاثة قُتل تحت التعذيب.
• الشهيدة نجلاء الطيب إسماعيل – معلمة عُثر على جثتها وعليها آثار اغتصاب.

وغيرهم كثير…
هذه الأسماء ليست مجرد قائمة، إنها رُقع في راية الوطن الممزقة.

زمزم: المرآة التي لا يكسرها النسيان

في كل خيمة، هناك شهادة. في كل طفل نازح، هناك سؤال: لماذا لا تُطبق العدالة؟ لماذا يُكافأ القتلة بالمناصب؟ لماذا تتحول المعسكرات إلى مقابر صامتة؟

زمزم اليوم هو مرآة السودان الحقيقي، ذلك السودان المنسي، الذي لا يحضره الإعلام إلا حين تسقط جثث كثيرة دفعة واحدة، أو حين تُلتقط صورة طفلة هزيلة تُشارك الذباب رغيفًا يابسًا، في ما ينتظر طائرٌ ضخمٌ موته ليلتهم الجثة.

الظل النووي في زمزم

الظل النووي هنا ليس قنبلة، بل صمت العالم. ظل ثقيل، ناتج عن انفجار أخلاقي هائل، لا يُرى بالعين، لكنه يترك إشعاعًا في الضمير.

زمزم يعيش في ظل هذا الانفجار: انفجار التخلي، والخذلان، والمساومة على الدم.

الظل النووي في هذا المقال هو: أن تتحوّل الخيمة من مأوى إلى شاهد قبر، وأن يكون الناجي هو وحده من يتذكر، بينما تنسى الدولة والعالم والأمم… كل شيء كان انفجارًا نوويًا لم يحدث…

زمزم اليوم قصة وطن، وقضية الإنسانية كلها.
زمزم رسالة إلى العالم بأن الفاشية والنازية قد تولدان في أشكال أخرى. وصوت نداء لضمير العالم الغائب، وصرخة إلى شعب السودان: اتحدوا ضد الإرهاب.

البلد نيوز

البلد نيوز صحيفة إلكترونية تهتم بالشأن المحلي والعربي والعالمي معًا، مستندة على المصداقية ونقل الصورة كما هي للأحداث، وتمنح البلد نيوز للمبدعين والكتَّاب ساحة للإبداع وطرح الأفكار، وتسعى إلى دعم كل ما هو جديد ومفيد في شتى المجالات.
زر الذهاب إلى الأعلى