عصام حسن علي يكتب.. العودة إلى الخرطوم وتغيير المفهوم

تُعَدّ العودة إلى الخرطوم، بعد مرور زمن من الحرب، أكثر من مجرد رجوع إلى مدينةٍ تجمعت فيها الذكريات والآمال. إنها عودة إلى الذات، إلى جوهر الوجود السوداني الذي طالما ظل يطرح تساؤلات وجودية في أعماق كل فردٍ يحمل بين ضلوعه محبة الوطن وهمه. السؤال الأبدي: هل سيتغير السودانيون؟ وهل ستتغير مفاهيمهم تجاه بعضهم البعض، وتجاه وطنٍ منحوه قليلًا من الوفاء، في حين أخذت منه الحرب الكثير؟
لم تكن الحرب حكراً على الدمار المادي، أو القذائف المتطايرة، أو أصوات الصراخ التي ملأت الأجواء. لقد كانت أيضًا مرآة صادقة كشفت هشاشتنا الداخلية، وأنانياتنا التي قد تمنعنا أحيانًا من التكاتف، وطريقة تعاملنا مع الخلاف والاختلاف، وكيف كانت نظرتنا للحكم والسلطة مختلفة تماماً عن مفهوم المسؤولية الوطنية الحقيقية. جاءت الحرب لتكشف أن بعض ما ساد في مجتمعنا واعتُبر “عادات” إنما كان عبئًا أخلاقيًا ارتدّ سلبًا علينا جميعًا، دفعنا ثمنه غاليًا.
يبقى السؤال: هل أدركنا درس الحرب؟ هل تعلمنا أن العدو ليس دائمًا “الآخر” المختلف، ذاك الذي يثير الخوف بسبب اختلاف مظهره أو أفكاره؟ بل إن العدو قد يكون فكرة تجذَّرت عبر الخوف، أو خرافة انتشرت عن جهل، أو كراهية موروثة بلا تمحيص. فهل بتنا ندرك أن العدو الحقيقي يكمن في كراهيتنا الموجهة لبعضنا البعض، في سوء الفهم، وفي انعدام الرحمة تجاه من يعاني من حولنا؟
بناء وطن حقيقي يبدأ من احترام الرأي الآخر، بقبول التنوع والاختلاف. يبدأ من إحساس عميق بأن ألم الآخر يجب أن يكون ألمًا مشتركًا، أن فقدان طفل في معسكر نزوح لمدرسته ولمستقبله هو خسارة جماعية لكل مواطن. بهذا الإدراك يتشكل المجتمع، ويزدهر الوطن.
اليوم، يقف السودانيون على مفترق طرق . فمن الممكن ببساطة أن تعود الأمور كما كانت: قلوبٌ أشدّاء على بعضهم، ورُحماء على الغريب. أن تعلو الأصوات في وجه الداخلين ضمن الصفوف، وتنخفض أمام الأجنبي، أن يغلب الانتماء الضيق على الانتماء الأكبر، وتعود عادات التباهي والحسد والإقصاء، مع تقديس الزعامات على حساب الوطن، فيهدد الوحدة والاستقرار.
ولكن، هناك خيار آخر، أكثر نبلاً. خيار العودة إلى الخرطوم ليس بجسدٍ فقط، بل بأرواحٍ جديدة، بأمل متجدد وقيم متغيرة، وفهم عميق لما فقدناه وما استُنزف من أجيالنا القادمة. عودة تحمل في طياتها عزيمة إعادة بناء ما تهاوى، ليس فقط في البنية التحتية المادية، بل في نسيج العلاقات بين الناس، وفي علاقتهم بالوطن الذي ينتظرهم.
الخرطوم ليست مجرد مكان على الخريطة، بل هي رمز للوطن بكل ما يحمله من أحلام وآلام، انتصارات وانكسارات. إنها مساحة للفرص والتحديات، للمصالحة مع الذات والمجتمع، وللإصلاح الذي لابد أن يبدأ من الداخل، من الأفكار والمفاهيم، قبل أن يمتد إلى الجدران والشوارع.
فهل سيعود السودانيون إلى الخرطوم كما كانوا؟ أم سيعودون كما يجب أن يكونوا؟ خيارهم سيكون مفتاح مستقبل الوطن، وحجر الأساس في إعادة بناء سودان يستحقونه وينتظرونه.
في نهاية المطاف، لا يمكن للعودة أن تكون مجرد استعادة مكان على الخارطة، بل هي استعادة لقيم ومبادئ. استعادة لقدرة الإنسان على الحب والتسامح، على العدل والإنصاف، وعلى الحرص الحقيقي على الوطن بصفته بيت الجميع. إن العودة إلى الخرطوم فرصة ثمينة، ربما تختلف عن كل العودات السابقة، فرصة لتغيير المفاهيم، إصلاح الذات، وبناء وطن يستوعب الجميع بحاضره ومستقبله.
وعليه، يبقى السؤال في مشاعر كل فرد: هل أراد الخرطوم أم هو العكس؟ وهل استطاع أن يعدل مساره ليكون جزءاً من الحل لا من المشكلة؟ فهذه هي العودة الحقيقية التي تنتظرها الخرطوم، وينتظرها السودان ككل