عندما يصبح حامل القلم… حاملًا للإبريق

في السياسة، كما في الطقوس اليومية، لا تكفي الألقاب لتحديد الأدوار. فـ”حامل القلم” البريطاني في مجلس الأمن الخاص بالملف السوداني، السيد ديفيد لامي، وزير الخارجية في حكومة صاحب الجلالة، والمحامي الذي ينادي بالعدالة، بدا مؤخرًا كمن تخلّى عن مهمته الدبلوماسية ليتقمّص دور “الفلنقاي” — ذاك المصطلح الذي تروّجه ميليشيا الدعم السريع لوصف من يخدم خصومهم، وكأنهم يقولون: “هذا لا يستحق الاحترام، فهو مجرد من يحمل الإبريق لسيده”.
فهل قرر السيد لامي أن يضرب بعرض الحائط العلاقات السودانية-البريطانية التاريخية، ليخدم مصالحَ أناسٍ آخرين…؟
ويا للمفارقة! كيف تحوّل حامل القلم، الذي من المفترض أن يكون مدافعًا عن المبادئ وحقوق الإنسان، إلى حامل إبريق سياسي يغسل به أيدي القتلة؟
هل ضاق القلم ذرعًا بالحبر، فاختار أن يسكب الدم بدل أن يكتب الحق؟
وهل باتت الفاشر أقل أهمية من ميزان المصالح البريطانية في الذهب والنفوذ الإقليمي؟
الحياد البريطاني… حيادٌ بطعم الرماد
تتباهى بريطانيا بأنها تقف على مسافة واحدة من الأطراف السودانية المتحاربة. ولكن، أي مسافة تلك التي تسمح لواحدة من أخطر الميليشيات في تاريخ إفريقيا المعاصر — ميليشيا تُتّهم بتصفية مئات الآلاف، واغتصاب آلاف النساء، ونهب مدن بأكملها — بأن تتحوّل إلى طرف “شرعي” في خطاب الخارجية البريطانية؟
أي حياد هذا الذي يُساوي بين الضحية والجلاد، بين من يُدافع عن وطنه، ومن أعلن الحرب على عاصمة بلاده وشرّد الملايين؟
ألم تقع عينا المحامي البريطاني على التقارير التي توثّق الجرائم التي ارتُكبت في السودان باسم الديمقراطية؟ أم هل باتت الديمقراطية تُجلب على أجساد النساء، وأشلاء الأطفال، وتجويع الكبار؟
أم هل بات استهداف المرافق الخدمية — الذي هو جريمة حرب وفق كل القوانين — سلاح ضغط يُغضّ الطرف عنه…؟
لو كان لامي شخصًا عاديًا لما استغربنا، لكنه قانوني مخضرم. فهل أصبحت العدالة عمياء وبكماء وصمّاء؟
الآن، وبينما تُحاصر الفاشر، ويُدفن أطفال زمزم تحت الركام، ما زال خطاب لندن يتحدث عن “ضرورة التفاوض”، و”الاستماع لكافة الأصوات”.
عزيزي لامي، ليست كل الأصوات متساوية. بعض الأصوات تُطلق الرصاص، وتغني على المقابر.
من لندن إلى الفاشر… رحلة في نفاق القرن
في شوارع لندن، يتمتع أنصار ميليشيا الدعم السريع بكافة حقوق التعبير؛ ينشرون منشورات تُمجّد القتل، ويتحدثون عن “نقاء الهوية”، ويصفون أبناء دارفور والنيل الأزرق بأنهم “عبيد” و”غزاة”. هؤلاء لا يُراقبون، ولا يُلاحقون. على العكس، يُرحّب بهم في الفعاليات والمنتديات، وتُفتح لهم أبواب الإعلام.
في المقابل، تُضيّق السلطات البريطانية الخناق على النشطاء السودانيين الذين يُوثقون الانتهاكات، ويُحذّرون من الإبادة الجماعية. يُسحب دعمهم، وتُهمَل مطالبهم، ويُطلب منهم “التهدئة” حفاظًا على “مصلحة السلام”.
أي سلامٍ هذا الذي يُبنى على تكميم الأفواه وتمكين القتلة؟
متى أصبحت لندن عاصمة ترحّب بالعنصرية؟
بريطانيا التي قاومت النازية، والتي تفخر بإسقاط نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، كيف أصبحت ملاذًا لخطاب الكراهية العرقي؟
كيف تحوّلت عاصمتها إلى منبر يُشيد بجيشٍ خاص اغتصب نساء بلاده وسحق مدنها؟
أين ذهبت معايير الديمقراطية التي لا تميّز بين البشر؟
أم أن الديمقراطية البريطانية أصبحت “انتقائية”، ترحّب بمن يُدافع عن مصالحها، وتصمّ آذانها عن صرخات اللاجئين؟
حامل الإبريق بدل القلم
السيد ديفيد لامي، وزير الخارجية البريطاني، لا يبدو حاملًا للقلم فعلًا. بل أقرب إلى حامل إبريق، يخدم على مائدة مصالح غير معلنة.
كل مرة يظهر فيها، يتحدث عن “ضرورة تفهّم تعقيدات الوضع”، وكأن المجازر في دارفور أمرٌ قابل للتفاوض، وكأن الدم السوداني ليس كافيًا لتحريك الضمير.
سيادة الوزير، لو كنت حاملًا للقلم فعلًا، لاستخدمته في كتابة قرار يُدين من دمّر السودان فعلًا، لا في التغطية عليه.
لو كنت ممثلًا لشعب بريطانيا حقًا، لوجب عليك أن تحترم العدالة، وتُنصف المواقف، وتواجه الحقائق عارية كما هي.
الظل النووي في هذه الحكاية… أن التاريخ يعيد نفسه بشكل أبشع
في كل مرة يُقتل فيها سوداني في الفاشر، يُداس فيها طفل في زمزم، ويُغتصب فيها مدني في الجنينة، هناك “قلم” في لندن يختار ألا يكتب.
يختار أن يصمت.
يختار أن يحمل الإبريق.
فلتُكسر الأقلام التي لا تكتب الحق.
ولتُملأ الأباريق بالعار.
وليعلم التاريخ أن بريطانيا، التي كان يمكن أن تكتب نهاية المجازر، اختارت أن تكون جزءًا من فصولها