أخبار عاجلةالاجتماعيمقالات

مجاعتان… سيِّدان، والسيف والنار

 

في السودان، الجوع ليس حدثًا بيولوجيًا، بل فصلٌ من روايةِ السُّلطة، يُكتَب حين يقرِّر الحاكم أن يبني مجده فوق بطونٍ خاوية.
وفي بلدٍ تعوَّد أن ينهض في كل مرةٍ من تحت الركام، بعدما حفرت المجاعات اسمها في العظم، لا في التاريخ.

سنة ستة… وسنة دقلو.

في الأولى، جلس الخليفة عبد الله التعايشي على عرش المهدية، يرسل الجيوش شرقًا وغربًا، بينما الناس في أم درمان يأكلون الرماد، ويقتاتون على لحاء الشجر.
وفي الثانية، جلس حمدان دقلو على مدرعةٍ مسروقةٍ من الدولة، يعلن الحرب على الخرطوم، ويُحاصر الفاشر، ويترك مئات الآلاف في معسكر زمزم بلا ماء، بلا خبز، بلا ملجأ.

ما بين “الخلافة على منهاج المهدية زورًا”، و”ثورة الهامش”، سقط الشعب في الهاوية ذاتها… جوعٌ، صمتٌ، وخيام.

التعايشي: دولةٌ باسم الله زورًا، وتجويعٌ لعباد الله جورًا

لم تكن مجاعة عام 1306هـ مجرَّد قحط، بل جريمة حُكم.
ففي الوقت الذي جفَّ فيه النيل، واجتاح الجراد الأرض، وقلَّت الأمطار، كان التعايشي مشغولًا بالحرب… يُجنِّد المزارعين، ويصادر الذرة، ويجبر القبائل على النزوح إلى أم درمان التي أصبحت مدينة النحيب.

كتب الأمير الزاكي طمل رسالةً إلى الخليفة، لم تكن طلبًا للعون، بل وصفًا للهلاك:
“صاروا يأكلون الجيف، ويلتقطون الحبوب من الأرض… يتلقطون القشوش والأشجار من الأودية مسافة ثلاثة أيام وأربعة.”

لكن الخليفة لم يُرسل زادًا، بل أرسل فتوى.
قال إن المجاعة عقابٌ من الله… وكأن الله هو من صادر الزراعة، وجنَّد الفلاحين، ونهب المخازن!

دقلو: حين صار الجوع استراتيجية حرب

بعد أكثر من قرن، جاء رجلٌ آخر بنفس الزي، ونفس الفكرة.
لكن بدلًا من عمامة التعايشي، ارتدى دقلو بزّةً عسكرية وخوذةً مُمَوَّلةً من النظام البائد والباطل.

وفي حرب 2023، لم يكن الجوع أثرًا جانبيًا… بل تكتيكًا.
قواته سيطرت على طرق الإمداد، نهبت المخازن، أحرقت الحقول.
وفي معسكر زمزم، ماتت الطفلة مودة جوعًا. لم تبلغ من العمر ثمانية أشهر.
ماتت لأن الحليب كان محاصرًا. لأن الحرب كانت أقوى من الإنسانية.

قالت منظمة “أطباء بلا حدود” (2024):
“مئات الآلاف من النازحين يعيشون في ظروف غير إنسانية. نقصٌ فادح في الغذاء، وفي الرعاية، وأطفالٌ يموتون بصمت.”

وفي الفاشر، أعلنت الأمم المتحدة خطر المجاعة، بعد أن مُنعت قوافل الغذاء من الدخول، وتحوَّلت الأسواق إلى مقابر للبشر.

دولةٌ تُغذِّي الجوع… وتُسمن الشعارات

التعايشي خطب في الناس عن الجهاد،
ودقلو تحدَّث عن الحرية والعدالة.

لكن من مات، لم يكن جنرالًا، ولا قائدًا… بل أمٌّ في خيمة، وطفلٌ ينام على الطين.

الفرق بين الرجلين؟
واحدٌ قتل بالتقاعس، والآخر قتل بالتخطيط.

رحل الأول، وسيرحل الثاني… وسيبقى “الظل النووي” أن الجوع ليس دائمًا قَدَرًا، بل أداةُ سُلطة.
وحين يتحوَّل القمح إلى سلاح، والحليب إلى معركة، تصبح المجاعة جريمةً متعمَّدة.

وفي السودان، مات الناس مرتين:
مرَّةً لأن السماء بَخِلَت،
ومرَّةً لأن الحاكم اختار أن يُشبِع الحرب… ويُجوِّع الوطن

البلد نيوز

البلد نيوز صحيفة إلكترونية تهتم بالشأن المحلي والعربي والعالمي معًا، مستندة على المصداقية ونقل الصورة كما هي للأحداث، وتمنح البلد نيوز للمبدعين والكتَّاب ساحة للإبداع وطرح الأفكار، وتسعى إلى دعم كل ما هو جديد ومفيد في شتى المجالات.
زر الذهاب إلى الأعلى