أخبار عاجلةرؤي سياسيةمقالات

د. بابكر عبد السلام ….أي دمع يبكيك ..؟

اليوم في مساء اسطنبول الذي توخزه لسعات و نفحات باردة ، غادر الدنيا الفانية بهدوء كأن لم يمكث فيها ، الدكتور بابكر عبد السلام الحاج ، أشهر من تولي ادارة الامدادات الطبية في السودان و أحد أبرز من عمل علي توسعتها وتطويرها وتحديثها ، ووزير الصحة بولاية الخرطوم في عقد السنوات التسعين من القرن الماضي ، وينطفيء برحيله قنديل مضيء وباهر في عالم الصيدلة و الصيادلة ببلادنا الحبيبة ، و ونفقد بفقده أحد أصحاب الهمم العالية ، والانجازات الضخمة ، وموئل العلم والمعرفة ، ونموذج نابض بالحياة ، ومثال في القدرة علي مجابهة الصعاب وتحقيق الهدف ولو كان في قرن الشمس ..
عرفتُ الدكتور بابكر مسؤولاً حكومياً عن بعد ، عندما كان وزير للصحة بولاية الخرطوم ثم مديراً للامدادات الطبية بالسودان وهو يخطو بها خطوات جبارة نحو الامام في كل جوانبها ومجالاتها ، وتابعت كغيري معاركه الصحفية وكيف واجهها ، وحضرت عدد كبير من مصانع الدواء والمشروعات الضخمة في هذا المجال الحيوي سواء كانت استثماراً محلياً او أجنبياً .
وتشاء الاقدار أن إلتقينا معاً لاعرفه عن قرب ، في تأسيس صحيفة الانتباهة في الربع الاخير من العام ٢٠٠٥م والانطلاق بها في صدارة الصحف السودانية بلا منافس لثلاثة عشر عاما متواصلة ولم تزل .
كانت الصحيفة حلماً انذاك لمجموعة ضغط سياسية صدعت برأيها في اتفاقية نيفاشا للسلام في السودان ، وسرعان ما أسست تلك المجموعة ( منبر السلام العادل ) وكان الدكتور بابكر رئيس هذا المنبر قبل ان يتخلي عن مسؤولية القيادة للراحل المهندس الطيب مصطفي طيب الله ثراه ..
بدأنا والدكتور بابكر العملية التنفيذية لتأسيس الصحيفة من الصفر ، هو كمدير عام للشركة المالكة وانا كرئيس تحرير ، وبالطبع بجانب المهندس الطيب مصطفي رئيس مجلس الادارة واخوة كرام اخرين ، أسسناها في ظروف قاسية ، موارد محدودة لتجربة جديدة مثيرة للجدل وتعد مغامرة محفوفة بالمخاطر ، كنت أُدهش للدكتور بابكر في سرعة تفكيره ونجاعة افكاره ، وقدرته علي انتاج وتوفير البدائل امام كل معضلة ، واهتمامه بأدق التفاصيل ومرونته في معالجة المشكلات وكيف يزيح العقبات من الطريق … وتلك ميزات لا تتوفر الا لمن يمتلك قدرات ادارية وذهنية هائلة.
كان صبوراً يمتلك طاقة جبارة في العمل ، تحس كأنك امام ماكينة هائلة لا تتوقف عن الدوران و الحركة والاتقاد الذهني، ليله ونهاره يقضيهما في حركة دائبة وإخلاص ينبع من إيمانه بقيمة العمل و السعي من انفاذ الفكرة ، وتجده يضحك مقهقهاً في اصعب المواقف ، حاسماً في ساعة الحسم في كل الامور ما كَبُر منها او صَغُر .
لم أر مدققاً في الارقام كتاجرٍ حصيف مثله ، يراجع كل ما يصرف وما يرد بدقة متناهية ، ويحفظ الارقام بذاكرة مدهشة له طريقته الخاصة في المتابعة وعقد الصفقات وتنفيذ العملية الادارية في شقها المالي التجاري او الشق الاداري المحض.. متواضع بسيط لا يستفز احداً ولا يستنكف من ابداء ابوأي والنصح مهما كانت الكلفة والثمن ،
إستمر العمل بيننا ثلاثة عشر عاما كاملة ،كان طيلة هذه السنوات أول الحاضرين الي مقر الصحيفة لا يقعده مرض او ارهاق ، لولاه والطيب مصطفي كأباء مؤسسين وبقية المساهمين واعضاء مجلس الادارة لما وصلت الانتباهة الي ما وصلت اليه وطبعا تسلم الراية بعده الاخ سعدة العمدة لتواصل الانتباهة مسيرتها ..
وكان للدكتور بابكر رحمه الله الفضل الاكبر في شراء مطبعة الصمود لطباعة الصحف والكتب في جهد واجتهاد كبير ، وهي المطبعة التي آلت أسهمها في ما بعد لشركة البروفيسور مأمون حمدة .
فوق هذا وذاك .. فقيدنا د. بابكر دون ان تشعر تجد نفسك قد تعلمت منه كثير من القيم الفاضلة ، فهو في تواصل دائم مع اهله ومعارفه واصدقائه ، متنقلاً من اماكن الافراح والي مناسبات الأتراح ، مواصلاً رحمه ، مجاملاً اصدقاءه ، متفقداً رهطه ، وفياً لعلاقاته ، وظلت داره بكافوري عامرة بالاصدقاء والضيوف كريماً ودوداً .. منفقاً ندي الراح ..
ود. بابكر شخصية فذة يشهد له الجميع قدرته علي قول الحق ، لا يخشي احداً ولا يجامل ، له من الخبرات والتجارب في حياته لم تتأتي لكثير من الناس خاصة مجايليه ، فهو قيادي اسلامي صميم درس الصيدلة في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي في جامعة بغداد ، ثم عمل في مجالات الصيدلة متنقلاً في عدة بلدان عربية وافريقية خاصة نيجيريا التي قضي فيها بضع سنوات قبل العودة الي السودان وليتولي مسؤولياته التي تولاها في المجال التنفيذي والسياسي ..
ها هو يرحل اليوم ، وقد ترك فراغاً لا يمكن ان يشغله سواه ، فهو كتاب ضخم لم يقرأ الناس منه الا أسطر قليلات قصيرات ، فنسأل الله الرحمة والمغفرة و أن يلحقه بالنبيين والصديقين والشهداء ، و يجزيه الجزاء الاوفي لما قدمه لبلده وأمته ويوسع مرقده فعند الله حسن المآب والثواب …
العزاء له ولاسرته الصغيرة والكبيرة ولابنائه ( محمد ، عمر ، طارق ، خديجة ) الذين احسن تربيتهم وتركهم في درب الحياة ابراراً نافعين يجيدون ما رباهم عليه ..
انا لله وانا اليه راجعون ..

زر الذهاب إلى الأعلى