أخبار عاجلةالاجتماعيمقالات

لتكن الأديان جسورًا، لا خنادق

 

في زمنٍ تتزاحم فيه ظلال الحرب والمجاعة على أبواب الخراب، جاء رحيل البابا فرنسيس كفقدٍ مضاعف. لم يكن مجرد زعيم روحي لمليار كاثوليكي، بل ضميرًا عالميًا ظل يضيء بنور شحيح في عتمة السياسة والخراب، في وقت شاع فيه الفساد الروحي، وصرنا نعيش موجة “صكوك غفران” جديدة تُمنح للبعض ليبرروا كل شيء مقابل المال — حتى تدمير الدول، وإشعال الحروب، وتشريد الأمم.

في عالمٍ كره التعدد والاختلاف، خرج علينا فرنسيس مؤمنًا بالمحبة، وبأننا لا يجب أن ننسى الفقراء. ولهذا اختار اسم “فرانسيس”، تيمنًا بفرنسيس الأسيزي، ذلك القديس الذي وهب حياته لخدمة الفقراء، ونشر المحبة، وحماية الطبيعة.

تلك الطبيعة التي لم تسلم من همجية مليشيا الدعم السريع، وهم يحرقون حتى أشجار الهشاب في بلادي — تلك الأشجار التي تنبت في أرض القديسة بخيتة، والتي، مثلها، تمنح الدواء للعالم وهي جريحة.

واليوم، إذ نرثيه، لا نرثي رجلاً فحسب، بل نرثي مرحلة كان فيها للرحمة متحدثٌ رسمي.

في السودان، الأرض التي لم تعرف من العالم إلا النسيان، لم ينسنا فرنسيس.

في خطبه، في صلواته، وفي رسائله من شرفة ساحة القديس بطرس، ترددت كلمات تحمل اسم بلادنا. لم يكن يرانا كحرب أهلية، ولا كملفٍ على طاولة الدبلوماسية، بل كأمة جريحة تستحق الشفاء.

عام 2023، حين اشتعلت الخرطوم بالنار، كانت الفاتيكان من أوائل من نادى بالسلام، لا كنداء سياسي، بل كصلاة جماعية عابرة للأديان. أرسل قداسته نداءً عاجلًا عبر الكرسي الرسولي، وقال في عظته الأسبوعية:

“إني أصلي من أجل الشعب السوداني، من أجل الأطفال، من أجل الذين يُقتلون بلا ذنب… ولتكن الأديان جسورًا، لا خنادق.”

*القديسة بخيتة: سيرة وطنٍ منسي

في قلب هذا الارتباط بين البابا الراحل والسودان، تتربع سيرة القديسة جوزفين بخيتة، ابنة قرية “أولغوسا” في دارفور، التي تحولت من عبدة منسية إلى قديسة عالمية.

وُلدت بخيتة نحو عام 1869، وخُطفت وهي في السابعة من عمرها على يد تجار الرقيق، وبيعت مرارًا في أسواق العبيد. خلال سنوات العبودية القاسية، عانت الجلد والتعذيب والتشويه، حتى أن اسمها “بخيتة” لم يكن اسمها الأصلي، بل أُطلق عليها سخريةً من قَدَرها — لتصبح، بعد ذلك، “بخيتة بخيتة” في الكنيسة، وبين أهلها.

نُقلت إلى إيطاليا في أواخر القرن التاسع عشر، وهناك وجدت لأول مرة من يعاملها كإنسانة. في دير راهبات “الكانوسيانيات”، شعرت بالرحمة التي لم تعرفها من قبل، فآمنت بالمسيح، واعتنقت الكاثوليكية، وكرّست حياتها لله.

أصبحت راهبةً متواضعة، تعمل في المطبخ والبِوابة والمستشفى، لكنها كانت عظيمة في صمتها. من حولها لقّبوها بـ”الأخت السمراء ذات القلب الذهبي”، وكانت تقول بابتسامة خفيفة:

“لو التقيت أولئك الذين خطفوني، لشكرتهم، لأنهم قادوني إلى معرفة الله.”

رحلت بخيتة في 8 فبراير 1947، لكنها عادت إلينا من بوابة الفاتيكان، حين أعلنها البابا يوحنا بولس الثاني قديسة عام 2000. أما فرنسيس، فقد جعل منها صوتًا عالميًا ضد الرق الحديث، وأقرّ يوم وفاتها يومًا للصلاة من أجل ضحايا العبودية والاتجار بالبشر.

أحب البابا فرنسيس بخيتة لأنه رأى فيها ما لم تره السياسة في السودان: إنسانًا انتصر بالرحمة، لا بالثأر.

واليوم، نرى كم من جرائم الاستعباد والاسترقاق تُرتكب في نفس الأراضي التي مشت عليها بخيتة، من قبل مليشيا الجنجويد، باسم “المدنية” و”الديمقراطية”. وكأن الشيطان قد اختار حميدتي متحدثًا رسميًا باسمه، باسم التسامح والدين والمدنية والمستقبل، وهو أبعد ما يكون عن ذلك

*وطن التسامح… حتى وهو يتألم

في ظل البابا فرنسيس، لم تكن المسيحية جدارًا ضد الإسلام، ولا الطائفة حاجزًا أمام الأمة. رأينا في خطاباته إحالة مستمرة إلى الحوار. قالها من جوبا، ومن نيروبي، ومن قلب روما:

“السودان أرض ديانات، لا أرض أعداء. الشجاعة ليست في حمل السلاح، بل في التعايش.”

وفي زمنٍ تتقاتل فيه العواصم باسم العقائد، كان فرنسيس يحمل صليبًا وحيدًا: صليب الإنسان. الإنسان الذي يُقتل في سوق أم درمان، ويجوع في الجنينة، ويُنسى في أورقة السياسة الدولية، ويُستَعبد في دارفور، ويُسحب من الخرطوم، ويموت عطشًا وجوعًا، لا لذنبٍ له إلا أنه مواطن أراد أن يعيش بحرية… في زمنٍ لا حرية فيه.

*تعزية إلى إخوتنا المسيحيين في السودان

في هذا الرحيل الجلل، نتوجه بتعازينا الخالصة إلى جميع المؤمنين في الكنيسة الكاثوليكية في السودان، وإلى المجتمع المسيحي السوداني بكافة طوائفه. نعلم أن الحزن كبير، ولكن المحبة التي زرعها فرنسيس، والإرث الذي تركه، أعظم من أن يُمحى برحيل جسد.

دعونا نرفع رؤوسنا رغم الجراح، ونؤمن أن حق الاعتقاد حقٌ أصيل لا يُنتزع، وأن حق الحياة ليس مِنّة، بل واجبٌ مقدسٌ على الدولة والمجتمع.

دعونا نحلم بسودان جديد… لا تُقصف فيه الكنائس، ولا يُحاصر فيه المصلّون، ولا يُسأل الناس عن صلاتهم قبل أن تُسمع شكواهم.

 

*وداعًا أيها البابا…

لقد انطفأ النور في شرفة القديس بطرس، لكن ظله سيبقى… في كنيسة بخيتة، في فصول الحوار، في قلوب السودانيين الذين رأوا فيه وجه السلام.

في زمنٍ تتكاثر فيه فتاوى الدم، وأوامر القصف، وصرخات الإقصاء… نودّع رجلًا حمل في قلبه سودانيةً منسية، وصلى لها، باسمها، ولأجلها. وبهذا، ربما أحبنا أكثر مما نحب أنفسنا.

 

*الظل النووي… لأن بعض الأرواح لا تُطفأ، بل تتحول إلى نورٍ مستترٍ بيننا

البلد نيوز

البلد نيوز صحيفة إلكترونية تهتم بالشأن المحلي والعربي والعالمي معًا، مستندة على المصداقية ونقل الصورة كما هي للأحداث، وتمنح البلد نيوز للمبدعين والكتَّاب ساحة للإبداع وطرح الأفكار، وتسعى إلى دعم كل ما هو جديد ومفيد في شتى المجالات.
زر الذهاب إلى الأعلى