أخبار عاجلةالاجتماعيمقالات

الهوس والهوس المضاد

 

منذ أن خلق الله السودان، لم يمر علينا زمن بهذا القدر من التشويش. لقد بلغ الضباب مداه، حتى أصبح أكبر منتهك لحقوق الإنسان هو ذاته “المتحدث الرسمي باسم الإنسان”.

واعتاد من تعلّم العيش والارتزاق بسلاحه أن ينصّب نفسه منبرًا للحرية والوطنية لدى البعض.
وأصبح وطننا لعنةً لأبنائه، وقبلةً لكل المغضوب عليهم من أبناء الشتات والضالين سياسيًا.

بتنا نعيش زمنًا تنهار فيه المعاني، وتُفرّغ الشعارات من مضامينها. وأكبر دليل على ذلك، خروج عبد العزيز الحلو بمشروعه الجنجويدي الجديد، متحدثًا فيه عن “العلمانية أو تقرير المصير”.

العلمانية التي يتدثّر بها الحلو ليست مجرد عبارة مشحونة، مثقلة بتاريخ الدم والخذلان، بل تحمل في طياتها ريبةً… لا بسبب ماضي قائلها الذي احترف الارتزاق السياسي، ولا لمجرد أن من يرددها معه هم من رموز الانهيار، كحميدتي والنور حمد، بل لأنها تُطرح على طاولات التحاصص بلا اتساق، كسلعة فاقدة المعنى.

وقبل الخوض في “علمانية الحلو”، دعونا نسأل:
ما الرابط العجيب الذي يجمع بين رجل رفع السلاح باسم “التحرير”، وآخر رفعه باسم “الجهاد”؟
ما الرابط بين من يطالب بفصل الدين عن الدولة، ومن كان حتى وقت قريب يصيح “الله أكبر” فوق أشلاء المدنيين في دارفور؟
وما الذي يجعل الحلو يظن أن حميدتي – خادم الإسلاميين لعقود – مؤهل حتى لفهم فكرة العلمانية، دعك من التفاوض حولها؟

إما أن الله منّ على حميدتي بفهم يسبق قدراته بسنوات ضوئية، أو أن الحلو تلقّى ملياراتٍ ذهبية! لا شيء يجمع بين الاثنين إلا رغبتهما في حكم السودان كما يشاءان، بقوة السلاح.

الحلو: حين تتحول العلمانية من حياد الدولة إلى وصاية فكرية

الحلو لا يدعو إلى علمانية حقيقية، بل يمارس هوسًا مضادًا للهوس الذي عاشه السودان من قبل. فمنهم من أراد جعل الخرطوم “موسكو الجديدة”، ومنهم من أرادها “المدينة المنورة الثانية”، متناسين أن للخرطوم خصوصيةً وتاريخًا حاضرًا وعميقًا.

الخرطوم ستبقى الخرطوم، لا يستطيع ماركسي أن يلبسها بدلة اشتراكية، ولا إسلامي أن يفرض عليها حجابًا يستر جمالها وقبحها.

الخرطوم ترتدي ما يريده شعبها. هذا ما ينساه الساسة دومًا، وكأن الشعب السوداني إرث أو تركة، يمكن لأي منقلب أو حزب أن يفرض عليه أيديولوجيته دون استفتاء أو حتى سؤال.

ولعل محاولة إلباس الخرطوم قميص الاشتراكية أو الإسلامية أو حتى قميص معاوية وقميص عامر، هي أصل الأزمة الحالية.

فكيف لقلة أن تحدد شكل الدولة أو صيغة العقد الاجتماعي دون إشراك الناس أنفسهم فيه؟

في خطاباته ووثائقه، لا يكتفي الحلو بالدعوة لفصل الدين عن الدولة، بل يذهب إلى ما هو أبعد، حين يصرّح:

“لن نرضى بدولة يُمارس فيها الدين في الشأن العام. نريد دولة حيادية، تمنع الرموز الدينية من الظهور في المؤسسات العامة.”
(ندوة للحركة الشعبية، 2021)

وفي مسودة الدستور الانتقالي المقترحة من قبله، نقرأ:

“لا يجوز إقامة أي نشاط ديني بتمويل من الدولة أو داخل مؤسساتها، ويُحظر على العاملين في الدولة إظهار أي رموز دينية أثناء أداء عملهم.”

بهذا، لا يعود مشروع الحلو مجرد حماية للدولة من استغلال الدين، بل يتحوّل إلى فرض صيغة اجتماعية واحدة، تشبه النموذج الفرنسي المتطرّف، الذي صادر الحجاب من الطالبات المسلمات، ثم النقاب من الشوارع، ثم طارد “النية الدينية” حتى أصبحت الحرية الدينية محصورةً داخل الجدران فقط.

إنه نوع جديد من الإقصاء… لكن بلغة التنوير.

حميدتي: المجاهد القديم في ثوب الدولة المدنية

بجوار الحلو، يجلس حميدتي على نفس الطاولة.

الرجل الذي لم يُعرف عنه في تاريخه موقف عقلاني تجاه فكرة الدولة، ناهيك عن العلمانية. القائد الذي تربّى في حضن المشروع الإسلاموي، وقاتل في دارفور تحت راية “الجهاد”، مرددًا “الله أكبر” على جثث المساكين… لا يمكنه فهم العلمانية إلا بوصفها كفرًا أو “موضة”.

كيف لمن ساق جنوده إلى الحرب حاملين المصاحف أن يتحول فجأة إلى مفاوض باسم الدولة المدنية؟
كيف لمن تربّى على فتاوى الجهاد التكفيري وملأ القنوات بوعّاظ العنف أن يصبح راعيًا لحياد الدولة تجاه الدين؟

حميدتي لا يملك الأدوات الفكرية لفهم مشروع الحلو، ولا الرغبة أصلاً. بل يستثمر في وجوده ليبدو أمام المجتمع الدولي كـ”البديل المعتدل”، رغم أن تاريخه مليء بالقتل والنهب… مرة باسم الدين، وأخرى باسم الدولة، وثالثة باسم المال.

وصايتان تتنازعان شعبًا واحدًا

من المؤسف أن يُطلب من السودانيين أن يختاروا بين وصايتين:
وصاية دينية أجهضت الحياة السياسية باسم الشريعة، ووصاية علمانية تُقصي المعتقدات باسم التنوير.

والأسوأ من ذلك أن هذا ليس خيارًا بين النور والظلام، بل بين نموذجين من القهر… أحدهما يجلدك باسم الدين، والآخر باسم العقل.

علمانية بلا شعب، ودين بلا دولة

علمانية الحلو تتجاهل الطبيعة التعددية للسودان، وتفترض أن كل المواطنين يرفضون الرموز الدينية في المجال العام. كأن المطلوب تعقيم المجتمع لا تنظيمه.

لكن الحقيقة أن السودان متعدد ومتداخل: فيه المسلم والمسيحي، المتصوف والسلفي، العلماني والمتدين، وحتى من لا دين له.
ولا يحق لأي قائد – مدنيًا كان أو مسلّحًا – أن يفرض على الناس نمطًا موحدًا من الإيمان أو اللاإيمان.

هل هذه الدولة التي نريدها؟
دولة يُمنع فيها العامل من ارتداء سلسلة بصليب؟
ويُحظر على الموظفة المحجبة ممارسة عملها؟
ويُطارد فيها الإمام والمطران باسم “المواطنة المتساوية”؟

نحن بحاجة إلى دولة لا تُقصي الناس بسبب دينهم، ولا تُقصي الدين من الناس… بل تنظم العلاقة بين الدين والدولة بميثاقٍ جامع.

الخاتمة: من يصنع الدولة؟

إن مستقبل السودان لا يُرسم بين بندقية الحلو وراية حميدتي، بل يُكتب بإرادة شعب خرج من الجوامع والساحات، لا ليُستعبد باسم الدين أو باسم التنوير، بل ليحكم نفسه بنفسه.

كفى هوسًا… نريد وطنًا.

الحلو، الذي رفض الظلم باسم الدين، يقع اليوم في فخ الهيمنة باسم النور.
وحميدتي، الذي خدم الظلم باسم الجهاد، يحاول التسلل إلى قاعة النخبة ببطاقة مزورة.

كلاهما لا يملك تفويض الشعب، ولا شرعية التغيير، ولا حتى القدرة على تخيّل سودان مدني حقيقي.

نحن أمام مشهد عبثي: متطرفان يتفاوضان على شكل الدولة، بينما الأغلبية الصامتة تُقصف، وتجوع، وتُهجر.

السودان يحتاج إلى عقد مدني جديد، لا تكتبه الحركات المسلحة ولا كتائب الظل، بل تكتبه قوى الشعب الحي، المتحرر من الهوسَين:
هوس الدين، وهوس “تحرير الناس من أنفسهم”.
نحن بحاجة إلى راحة من الهوس… ومن الهوس المضاد.

ويبقى “الظل النووي” في هذا الموضوع هو الفيصل.
فلماذا لا نستفتي هذا الشعب؟
قمتم استعبدتم الناس، وقد وُلِدوا أحرارًا.

البلد نيوز

البلد نيوز صحيفة إلكترونية تهتم بالشأن المحلي والعربي والعالمي معًا، مستندة على المصداقية ونقل الصورة كما هي للأحداث، وتمنح البلد نيوز للمبدعين والكتَّاب ساحة للإبداع وطرح الأفكار، وتسعى إلى دعم كل ما هو جديد ومفيد في شتى المجالات.
زر الذهاب إلى الأعلى