أبطال اللحظة الأخيرة

في الأزمنة المشوهة، لا تصنع المذابح وحدها الخراب، بل يصنعه أيضًا أولئك الذين وقفوا على الأطراف، يعدّون جثث الضحايا بدمٍ بارد، في انتظار لحظة السقوط.
و حين السقوط بتقدمون كالضباع لاغتنام الفرص و الصعود علي جثث و أشلاء الشهداء ليجلسوا علي عروش الدول دون انتخاب.
يجلسون علي سدة الحكم باسم الثورة لا ليصنعوا فارق حقيقي لكن ليعملوا علي خلق احلال و استبدال.
فيتم استبدال المستبد بمستبد جديد يشابه الاول فعلا و يخالفه اتجاها.
نجدهم يتحدثون عن الفساد و هم ضد الفساد و عند بلوغهم السلطة لا نجد تقريرا واحداً للمراجع العام او حتي ابرأ زمة و كانهم لم يكرهوا الفساد من واقع كرههم للفساد من حيث المبدا لكنهم ربما كانوا يكرهون ذلك الفساد الذي لا يصب في جيوبهم و مصالحهم.
في الخراب، حين تتلاشى الفواصل بين الحقيقة والادعاء، يظهر أبطال اللحظة الأخيرة: رجالٌ صمتوا حين كان الصمت خيانة، وتقدموا إلى الصفوف حين صار الموت قابلاً للتفاوض.
جيدون هم في التفاوض علي الدم تجدهم يتحدثون عن الانتقال و الوطن الحلم ناسين ان لا انتقال حقيقي ياتي دون عدالة انتقالية حقيقة تمنع اعادة انتاج العنف و الفعل فنقع اسري مستقبل مليء بالعنف بسبب حيادهم السالب.
قال الكاتب المسرحي الإيرلندي جورج برنارد شو:
“أسوأ مكان في الجحيم محجوز لأولئك الذين يظلون على الحياد في أوقات الأزمات الأخلاقية.”
وفي ساحات الدم الكبرى، لا يكون الحياد براءة، بل تواطؤًا متقن الصنعة، مغلفًا بخطاب الحكمة المصطنعة.
“أبطال اللحظة الأخيرة: حين يتأخر الصراخ عمدًا”
ليسوا هم أول من صاح حين سقطت القذائف، ولا أول من واجه حين سُدت الطرقات، ولا أول من نزف حين كان النزف عنوان الكرامة.
إنهم أولئك الذين ظلوا يفاوضون علي مواقعهم ويحسبون كلفة الانحياز قبل أن يحسموا أمرهم.
وحين بدأ النظام القاتل يتآكل، قفزوا إلى الشوارع، يحملون أعلامًا لم تتلوث بدمائهم، بل غسلوها بخطب منمقة وصور مُعدّة بعناية.
لم يتشرفوا بمقابلة رصاص القمع و لم يصب انفهم دخان الغاز المسيل للدموع و لم يذوقوا افطار المعتقلات و جلد السجان كانوا في عواصم دول اخري ينعمون بالحياة يتذكرون الوطن فقط عندما يتذكرون مصالحهم.
في السودان، تسلل كثير من رموز الأمس إلى مسرح اليوم، يتقمصون دور الأبطال الذين لم تطأ أقدامهم جبهات الحقيقة
جنرالات الانشقاق المتأخر، ساسة الانتهازية، وأصحاب المبادرات الخجولة، جميعهم أصبحوا ـ بقدرة الحياد الانتقائي ـ أوصياء على دماء لم يسهموا إلا في تأخير الاقتصاص لها فضاعت العدالة. و الاسوأ كان تحصينهم للقتلة و ضمان عدم مسالتهم قضائيا و خوفهم من اصدار اي نتيجة تحقيق يدينهم فباتوا بذلك شركاء في الدم فالتستر علي الجرم كالجرم و ربما اسوا.
هذه الظاهرة ليست سودانية فحسب؛ بل مسرحها ممتد في التاريخ:
في ألمانيا، بعد الحرب العالمية الثانية، تسلل آلاف من أعضاء الحزب النازي إلى مفاصل الدولة الألمانية الجديدة، تحت ذريعة “عدم القدرة على استبدال الجميع”، مما شوه الذاكرة الجماعية لعقود.
في جنوب إفريقيا، عقب سقوط نظام الفصل العنصري، احتفظ كثير من الضباط الذين اضطهدوا السود بمناصبهم في الدولة الديمقراطية الوليدة، باسم “المصالحة”، بينما بقيت جراح الضحايا دون اعتراف أو توبة حقيقية.
في رواندا، بعد الإبادة الجماعية عام 1994، برز بعض المتواطئين الأوائل في حملات القتل كدعاة للوحدة الوطنية، مستفيدين من رغبة الدولة الجديدة في إغلاق ملف الدماء بسرعة.
و كانما نحاول استبدال المستبد بمستبد آخر دون ان يكون عادلا فوالله لو كان المستبد الجديد عادلا لقبلناه فنحن خرجنا نردد حرية سلام و عدالة لا احلال و استبدال !
في كل هذه الحالات، لم يكن الانتهاك الصريح وحده هو الكارثة، بل كان الصمت الذكي، والاصطفاف في اللحظة الأخيرة، هو ما صنع مأساة ما بعد المأساة.
“حياد “صمود” و”تقدم”: التواطؤ المغلف بالحكمة”
في المشهد السوداني، لا بد من ذكر بعض الكيانات التي قدمت نفسها كعناوين “ممانعة” مثل صمود وتقدم.
ظاهريًا، رفعت هذه المجموعات شعارات الثورة، لكنها حين اشتد وطيس الحرب واختلطت الحقيقة بالدخان، فضلت أن تتخندق في الحياد، صامتة أمام المجازر، مترددة أمام وضوح الحقائق.
مارست هذه الكيانات حيادًا ناعمًا، و انتقائياً تلهت بإنتاج البيانات وتوزيع المبادرات، بينما كانت ميليشيات الموت تكتب التاريخ بالدم.
وفي النهاية، حين احتاج المشهد إلى أبطال جاهزين، تقدمت هذه الكيانات إلى الواجهة، وكأنها كانت دائمًا في الخنادق لا في صالات التفاوض كانت تردد لا للحرب و دمارها متناسين انهم رددوا قبلها لا للمحاسبة ضمنيا و حصنوا القاتل فصار دمنا رخيصا و الان يريدون مبادلة دمنا بسلام ياتي بهم الي كراسي السلطة دون سند شعبي و دون انتخاب ليحكمونا عقود مكررين نفس الطوق و الأسورة طارحين نفسهم كمستبد عادل.
وكما قال جورج برنارد شو في سياق آخر:
“في معركة الحق والباطل، يصبح الحياد خيانة صامتة.”
وهكذا وجدت “صمود” و”تقدم” نفسيهما ـ دون أن تشعرا، أو ربما عن وعي ـ في موضع من ساوى بين الجلاد والضحية.
كيف يصنع الإعلام هؤلاء الأبطال؟
الإعلام، بطبيعته، لا ينقل الحقيقة كاملة؛ بل يعيد تشكيلها وفق مقتضيات اللحظة.
وفي زمن الانهيار، تصبح الرواية أهم من الحقيقة، والصورة أقوى من الشهادة.
وهكذا، أعيد إنتاج بعض المتواطئين كرموز، وتم غض الطرف عن جرائم الصمت والمهادنة.
تم إضفاء البطولة على من كانوا يحسبون موازين القوى في صمت، وتجاهل أولئك الذين وقفوا حيث كانت الطلقات لا تصلح للتفاوض.
و ظلت عباية الأبطال تخفيهم الي ان أسقطها البعض عنهم عمدا بعد ان قرر تحويل العلاقة الغير شرعية بينهم و بين المليشيا الي علاقة شرعية ظنا منهم ان توقيع اعلان نيروبي هو المخرج من ازمة الحياد الانتقائي.
“ثمن التزييف: مستقبل هش وذاكرة معطوبة”
التزييف لا يقتل الماضي فقط، بل يفرغ المستقبل من معناه.
فالمجتمعات التي تعيد تدوير الجلادين باسم الوحدة، أو تسمح بتلميع الحياد باسم الحكمة، لا تبني سلامًا حقيقيًا، بل تبني دورة جديدة من الخراب.
ما لم يُحاسب على الدماء لا يُبنى عليه وطن.
وما لم نعرف الفرق بين البطل الحقيقي وصائد اللحظات الأخيرة، سنعيد الانهيار مرة بعد أخرى، كلما احتدم الصراع وامتحنتنا الحياة.
لمن نكتب الذاكرة؟
لا يكتب التاريخ في المؤتمرات ولا في نشرات الأخبار.
يكتبه من سقطوا بصمت، من واجهوا حين كان الصمت هو القاعدة.
في كل مرة نقبل أن يرتدي أحد أبطال اللحظة الأخيرة عباءة البطولة، ندفن الحقيقة مع الضحايا مرة أخرى.
في وطن مثقل بالمقابر الجماعية، لا شيء أكثر فتكًا من النسيان الممنهج، ولا جريمة أعظم من تبرئة من وقفوا صامتين في حضرة الذبح.
فليكن معلوماً:
البطل ليس من ركب الموجة حين كسرت السدود.
البطل هو من واجه السيل حين كان الإنكار سيد الموقف.
وفي بلاد الظلال الثقيلة، كل حياد خيانة، وكل صمت شراكة.
و يبقي الظل النووي حاضرا في زمن الخراب، لا تصنع الأوطان بالحياد، ولا تبنى الشعوب بالصمت. فنحن لا ننسى… ولا نغفر … ننتصر او نستشهد …