الشيخ الأمين عمر الامين يكتب.. . في ذاكرة الأحداث من مسيد الرحمة

📌أخطُّ هذه السطور من ذاكرة الوجع، لأوثق تجربةً مريرةً عشتُ تفاصيلها كشاهدِ عيان؛ فهي شهادتي للتاريخ أودعها ذمة الأيام، بصفتي مواطناً عاينَ أهوال الحرب بقلبه قبل عينيه. أسردها بقلبٍ صافٍ لا يعرفُ المَنَّ ولا الأذى، فروحي وما ملكت يداي فداءُ الوطن.
إنَّ أهلي وعشيرتي هم بعضي، وليس مثلي مَن يَمُنُّ على رفاقِ العمرِ الذين قاسمتهم لقمة العيش، أو على بلادٍ غذّتني من كفّها السخيّ، وروت ظمئي من فيض نيلها الخالد. فما قدّمتُه لم يكن تزيُّداً ولا فضلاً، بل هو دَيْنُ الوفاء للأرض والوطن.
أَنَا مَا بَذَلْتُ لِكَيْ أُقَالَ بِأَنَّنِي … بَلْ صِدْقُ حُبِّي لِلْبِلادِ دَعَانِي
بذلتُ الروحَ لم أطلُبْ ثناءً … فَكَفاني من الوفاءِ ما كفاني
(المسيد..يُكرم الحي و الميت )
قال تعالى:
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ ٱلْأَمْوَالِ وَٱلْأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِينَ﴾
في مسيد الرحمة، كانت الإنسانية تتقدّم على كل شيء، وبرزت معاني العطاء والرحمة في أشد لحظات الحياة قسوة، حيث بات الموت والحياة يتنازعان الأرواح، كلٌّ ياخذها في اتجاه.
تزايدت رائحة الموت من حولنا، وتعددت أسباب الفقد، لكن الكارثة الكبرى كانت أن يُصبح الجوع سببًا رئيسًا للموت في بلاد كنت تسمئ سلة غذاء العالم.
في بعض الحالات، لم تُكتشف الجثث إلا بعد أن بدأت روائحها تنتشر، ليُدرك الجيران أن أحدهم قد مات وحيدًا، بصمت مؤلم.
وفي حالات أخرى، وُجد أشخاص في لحظاتهم الأخيرة، لكن محاولات إنقاذهم باءت بالفشل، وكان الحزن سيد المشهد.
في تلك الظروف، أصبح الدفن في قبر، لا في العراء، أعظم صور الإكرام.
فقد مات كثيرون دون أن يجدوا من يودّعهم أو يجهّزهم، وبعضهم إن نال شيئًا من الكرامة، دُفن إلى جوار منزله لا لشيء إلا لأن نقله كان مستحيلاً.
أما الشباب الذين كانوا معي في المسيد، من أولئك الذين كانوا يُلقّبون بـ”الجكس”، فقد أصبحوا رجال النجدة الوحيدين. شباب في مقتبل العمر، يتصدّرون لمهمة دفن الموتى في ظروف خطيرة وسط الاشتباكات.
عادت منطقة تُرب الشهداء إلى أصلها مقبرة، بعد أن اخذت صورة ميدان، فاستعادت وجهها القديم في ذاكرة أهل أم درمان.
ومن أصعب القصص التي مرّت علي في المسيد، أن رجلاً مسنًا جاءنا منهارًا، أخبرنا أن شقيقته توفيت منذ ثلاثة أيام في منزله، ولم يستطع فعل شيء بسبب الحظر ومنع الخروج.
ما كان منا إلا أن استجبنا، فتم إحضار الجثمان بـ”تكتك”.
والحمد لله، كنت قد أفردت دروس في حلقات العلم لتعليم غسل الجنائز، بما فيها الحالات الخاصة كالجثث المتحللة أو المحروقة، فكان الشباب والشابات على قدر المسؤولية.
رغم تغيّر رائحة الجثمان ، قام بنات الشيخ بغسلها وتكفينها كما هو واجب، وصلينا عليها، ثم خرج الشباب مع اخيها لدفنها بما يليق بها من كرامة.
ذكرت هذه التفاصيل، لا لأجل الإثارة، بل لأننا لم نكن نتخيّل أن نصل إلى هذا الحال في السودان انما امر الله.
ومن بين القصص الكثيرة التي لا تزال محفورة في الذاكرة، قصة العم “صلاح”، الذي وصل إلى المسيد منهكًا تمامًا، تبدو عليه آثار الجوع والتعب والخوف.
جلس بصوت خافت وملامح يائسة، وقال لي:
“جارنا وصديقي في الحي تُوفي قبل سبعة أيام، ونحن محبوسون في المنزل، لا طعام، ولا ماء، ولا من يساعد.”
رحّبت به على الفور، وخرج معه مجموعة من شباب المسيد إلى منزله. كانت المفاجأة مؤلمة…
الجثمان كان قد تحلل بشدة، ما جعل نقله شبه مستحيل. فتم تجهيز الجنازة في ذات المكان، ودفنها قرب المنزل، في مشهد موجع، لكنه كان أكثر الحلول رحمة وإنسانية.
أُعيد العم صلاح إلى المسيد، وتم تقديم الرعاية الصحية اللازمة له، من طعام وشراب، ومكان يليق بكرامته.
بقي معنا حتى استقرت الأوضاع، وتعافت روحه وجسده، ثم عاد إلى منزله سالمًا، حامدًا لله، شاكرًا لكل من وقف معه.
في المسيد، اكتنف الستر الموتئ والنجاة لكل من يلجأ إليه،
حيث تتلاقى الأرواح على عتبات المواساة والتضامن،
لا يترك المسيد جائعًا دون غذاء، ولا مريضًا بلا رعاية،
ولا ميتًا إلا وحظي باالاكرام الذي يليق به،
فكان النبض يرجع ليضخ الحياة لمن وصل وهو علئ مشارف النهاية، وظل المسيد يزهر عطاء ورحمة الئ الان.
و لنا في المسيد بقية..